عصفورية “نحن لسنا في دولة نحن في حارَةِ كُل واحِدٍ ليَدِهِ ما تَطال” | بقلم العميد د. عادل مشموشي
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
هل نحن فِعلاً في دولة؟ أم كما يقولُ المَثلُ الشَّعبِيُّ إنَّها “حارَةُ كُلِّ من يلي بيَدِه له، وكُلُّ واحِدٍ ليَدِهِ ما تَطال” أم عصفورية طَوائف. إن ما يَحصَلُ في لُبنان في الآونَةِ الأخيرَةِ من إرهاصاتٍ على أعلى المُستوياتِ ما هي إلاَّ سُلوكيَّاتٍ غيرِ مًسؤولةٍ، نتاجُ اختلالٍ في العُقولِ، وانعِدامٍ للمَسؤولِيَّةِ، والافتِقادٍ للحِسِّ الوَطني.
يَصعُبُ إيجادُ التَّوصيفِ الأَمثَلِ لكُلِّ ما يَجري من تَجاوزاتٍ ومُهاتَراتٍ وخُزَعبَلاتٍ ومُناكَفاتٍ وتَلميحاتٍ وإيحاءاتٍ …الخ كما يَصعُبُ التَّكَهُّنُ بمآل الأُمورِ وإن استَعنَّا بكُلِّ قَارئي الفناجِين وكِبارِ المُنجِّمين ومُستَشعِري المَجهولِ أمثالِ ميشالِ حايك وليلى عَبد اللَّطيف.
هَزُلت، وبلَغَ السَّيلُ الذُّبى، وفاضَت أوساخُنا النَّتنَة، وفاحَت روائحُنا الكَريهَة. وها قد بلغنا أدنى دَركٍ من أدَبِيَّاتِ السُّلوكِ الانسانيِّ، وها نحن في طَريقِنا إلى تَسجيلِ أرقامٍ قياسِيَّةٍ في العُهرِ والفجورِ على كُلِّ المُستويات، وأضحَينا على قابَ قَوسينِ أو أدنى من الفَوزِ بجائزَةِ غِينِس في الفَشلِ في كافَّةِ المَجالاتِ السِّياسِيَّةِ والقَضائيَّةِ والإدارِيَّةِ والمِهنِيَّةِ والحِرَفِيَّةِ وأدبيَّاتِ التَّفاعُلِ والتَّخاطُب والنَّقد، ولكنَّا فَشِلنا فَشَلاً ذَريعاً في بناءِ وَطن.
إن ما حَصَلَ من هَمروجَةٍ اقتِحامِيَّةٍ لمَصرِفِ لُبنانَ ما هي إلاَّ عَراضَاتٌ غَيرِ مُجدِيَةٍ في ظِلِّ تَبايُنِ المَواقَفِ السِّياسيَّةِ في لبنان، وعدَمِ التَّوافُقِ داخِلَ الجِسمِ القضائي تجاهَ القَضايا الجَزائيَّةِ المُثارَةِ في وَجهِ حاكِمِ المَصرِف المَركزي، بل من شأنِها أن تُزيدَ من تَهشيمٍ صورَةِ الجِهازِ القَضائي وتَشويهِ سِمعَتِه.
كُدتُ أعتَقِدُ وأنا أتابِعُ مُستجِدَّاتِ الحدثِ أن ثمَّةَ إنزالٌ قَضائيٌّ أمنِيٌّ يَتعرَّصُ له مَصرِفِ لُبنان، إلَّا أن مُشاهَدَةَ الصُّوَرِ المُتناقَلَةِ عَبرَ الفَضائيَّاتِ بَيَّنت أن ما يَحصلُ مُجرَّدُ مُحاوَلَةٍ لاقتِحامِ مَبنى المَصرِفِ المَركَزِي بَحثاً عن حاكِمٍ مَطلوبٍ لعَدالَةِ مفقودَة، نائبٌ عامٌّ غيرِ مُختَصٍّ إقليمِيَّا (جبل لبنان)، مُواكَباً من جِهازٍ أمنِيٍّ غيرِ مُختَصٍّ نَوعِيَّاً “كون طَبيعَةِ الجُرمِ تَخرُجُ عن نِطاقِ اختصاصِهِ النَّوعي المَحصورِ في جَمعِ المَعلوماتِ عن الجَرائمِ الماسَّةِ بأمنِ الدَّولَةِ الدَّاخِلي والخارِجي.
إن ما أوردتُهُ وسأورِدُهُ ليسَ افتِئاتاً على صَلاحِيَّاتِ النِّيابَةِ العامَّةِ في جَبل لُبنان، ولا تَجنِّيَاً على قراراتِها أو دِفاعاً عنها أو تأييداً لمَواقِفِها، إنَّما من قَبيلِ الدَّعوَةِ للإلتِزامِ بروحِيَّةِ القَوانينِ النَّافِذَة، واحتِرامِ المَبادئ التي تَرعى الأُصولِ الإجرائيَّةِ، ومنها مَبدأي وَحدَةِ النِّيابَةِ العامَّة والعلاقَةِ التَّسلسُلِيَّةِ لقُضاتِها، وقبلَ كُلِّ ذلك حِرصاً على هيبةِ القضاءِ وسِمعَتِه والثِّقَةِ به.
إن ما حَصَلَ يَدعونا للاستِغرابِ والتَّساؤلِ عن الأسبابِ الحَقيقيَّةِ التي أملَت على النَّائبِ العامِّ الاستِئنافي في جَبلِ لُبنان الانتِقالِ إلى مَبنى المَصرِفِ المَركزي “الكائنِ في مَدينَةِ بيروت “خارِجَ نِطاقِ دائرتِه إقليميَّاً، بغَرَضِ تَوقيفِ الحاكِمِ، ودُخولِها عُنوةً إلى مبنى المَصرِفِ من دونِ موافَقَةِ النّيابَةِ العامَّةِ المُختَصَّة إقليميَّاً؟ أم أن ذلك جاءَ من قَبيلِ تَسجيلِ مَوقِفٍ ومُحاوَلَةٍ لإحراجِ بَعضِ الزُّمَلاء، وإظهارِ عَجزِ الجِسمِ القَضائي، أو تقاعُسِهِ، عن القِيامِ بواجِباتِه. أم أنَّ تصرُّفَها هذا نابِعٌ عن قناعَتِها وإصرارِها على تَنفيذِ القانونِ وإثباتِها أن العدالَةَ الجِنائيَّةَ يَقتَضي أن تُنَفَّذَ بِحَقِّ الجَميع؟ أم أنَّها اتَّخَذَت على عاتِقِها القِيامَ بما تَغافَلت عنه السُّلْطَةُ التَّنفيذِيَّةُ عن القِيامِ به (كَفِّ يَدِ الحاكِم)، وأحجَمَت المَراجِعُ القَضائيَّةُ عن اتِّخاذِه؟
ما كانَ للنّائبِ العامِّ الاستئنافي في جبل لُبنان أن تَتجاوَزَ كُلِّ تلكَ الضَّوابِطِ الإجرائيَّةِ لو أن السُّلطَةَ التَّشريعيَّةَ قامَت بواجِبِها وشكَّلت لَجنَةَ تَحقيقٍ برلُمانيَّةِ ذاتُ طابَعٍ قَضائي، لتَقصي الحَقائقِ وكَشفِ مُلابَساتِ تَبذيرِ المالِ العامِ والتَّفريطِ بموجوداتِ المَصرِفِ المَركَزي في احتياطِيِّهِ النَّقدي من العُمُلاتِ الصَّعبَةِ كما العِملَةِ الوَطَنِيَّة؛ وما كان ذلكَ ليَحصَلَ لو أن السُّلطَةَ التَّنفيذِيَّةِ قامَت بأقَلِّ واجِباتِها وكفَّت يَدَ الحاكِمِ بمُجَرَّدِ إثارَةِ الشُّبُهاتِ حَولَ أدائِهِ أو تَحريكِ مَلفَّاتٍ قَضائيَّةٍ في وَجهِهِ داخِليَّاً وخارِجِيَّا، وكذلك الأمرُ لو أن المَراجِعَ القَضائيَّةَ اللُّبنانِيَّةَ في لبنان حَذَت حُذوَ مثيلاتِها في بَعضِ الدُّوَلِ الأوروبِيَّةِ وباشَرت بالتَّحقيقاتِ الاستِقصائيَّة، لِجلاءِ الأُمور، واتِّخاذِ المَوقِفِ المناسِبِ على ضَوءِ ما تَتوَصَّلُ إليه التَّحقيقات، ولما كانت قد تمكَّنت من القيامِ بما قامَت وتقومُ به لولا وجودِ مَرجَعِيَّةٍ داعِمةٍ تُوَفِّرُ لها الغطاءَ السِّياسي.
إن مُلاحَقَةُ المُرتَكبينَ كُلِّ المُرتكِبينَ وإخضاعَهُم للمُحاكَمَةِ لهو مَطلبٌ شَعبيٍّ، بل هو إحقاقٌ للحقِّ وتحقيقٌ للعدالَةِ الجنائيَّة، شَرطَ الإلتزامِ بمَعاييرَ مُتجرِّدَةٍ والإلتِزامُ التَّامُ بروحِيَّةِ القَوانينِ النَّافِذَة بعيداً عن الانتِقائيَّةِ في فتحِ المَلفَّات. وهي تندرجُ ضِمنَ سِياقِ القِيامِ بالمَسؤولِيَّاتِ الأساسِيَّةِ المُناطَةِ بالجِهازِ القَضائي.
ألا يعتبرُ إحجامَ الجِسمِ القَضائيِّ عن القِيامِ بهذا الواجِبِ المُقرَّرِ قانوناً من قَبيلِ الاستِنكافِ عن إحقاقِ الحَقِّ؟ وهل كُنَّا بحاجَةٍ للإستِعانَةِ بشَرِكَةٍ دَولِيَّةٍ تُعنى بالتَّدقيقِ الجِنائي للتَّدقيقِ بحِساباتِ مَصرِفِ لبنان، وغيرِهِ من الإداراتِ الحُكومِيَّة لو قامَت كُلُّ سُلطةٍ بما هو مناطٌ بها؟ وطالما كانَ الحديثُ عن تدقيقٍ “جنائي”، ألاَّ ينبغي المُباشَرَةُ بتَحقيقٍ جِنائيٍّ أولاً، ومن ثمَّ يُستَعانُ بلَجنَةٍ من الخُبراءِ “مُدقِّقين مالِيين” لتَّحديدِ مواضِعِ الخَلَلِ في الحِساباتِ وتَحديدِ أسبابِ الهَدرِ وحَجمِهِ وأرقامِه؟
لم يعُد من المَقبولِ أن يبقى دَورُ السُّلطَةِ التَّشريعيَّةِ مُغَيَّباً في إطارَيهِ الرَّقابيِّ “أي المُساءلَةِ السِّياسِيَّة” والحِمائيِّ “التَّشريعي” لصَونِ أملاكِ الدَّولَةِ وأموالِها المَنقولَة، وأموالِ مواطِنيها؛ كما لم يَعُد من المَقبولِ أن تبقى السُّلطَةَ التَّنفيذِيَّةِ السَّدَّ المانِعَ الحائلَ دونَ مُلاحَقَةِ الفاسِدينَ والمُتورِّطينَ في تَقويضِ مُقوِّماتِ الدَّولَةِ وثَرَواتِها؛ كذلكَ لم يَعُد من المَقبولِ أن يبقى الجِسمُ القضائيُّ مُتَفرِّجاً صامَّاً آذانَهُ عن كُلِّ المَعلوماتِ المُتداوَلَةِ في الأوساطِ العامَّةِ عن الانتِهاكاتِ والارتِكاباتِ ولو كانت من قَبيلِ الشَّائعاتِ غيرِ المُثبَة؟ وكيفَ للقَضاءِ أن يُثبِتَ تَجرُّدَهُ ويَصونَ هَيبتَهُ ويُحصِّنَ مَناعَتَهُ ويُكرِّسَ استِقلاليَّتَهُ وشَفافِيَّتَه؟ وكيفَ لكُلِّ هذه السُّلطاتِ أن تَستَعيدَ هَيبتَها في ظِلِّ كُلِّ ما قيلَ ويُقال، وتحتَ وَطأةِ كُلِّ ما أُثيرَ ويُثار؟ أوليسَ من حقِّ الشَّعبِ أن يَتَوضَّحَ له كُلَّ ما يُثارُ من إلتِباسات؟
إن ما يُؤخذُ على القَضاءِ غَيضٌ من فَيضِ ما يَجِبُ أن يُقالُ عن مُختلِفِ إداراتِ الدَّولَةِ وأجهِزتِها، بل أخَطَرُ من كُلِّ ذلكَ بكثير؛ ففي الجِهازِ القَضائي، قد يُسمَّى بَعضُ القُضاةِ على بَعضٍ من المَراجِعِ السِّياسِيَّة، إنَّما في بعضِ الأجهِزَةِ قد يُؤدِّي تَسمِيَةُ قادَتِها لأَحَدِ المَراجِعِ لِجَعلِ الجِهازٍ برُمَّتِهِ مُكرَّساً لخِدمَةِ هذا المَرجَعِ أو ذاك، وقِس على ذلك بالنِّسبَةِ لمُختَلِفِ المَصالِحِ والدَّوائرِ في إداراتِ الدَّولَة.
إنَّ سوءَ الأَداءِ لا يَقتَصِرُ على إداراتِ الدَّولَةِ وأجهِزَتِها ومؤسَّساتِها الرَّسمِيَّة، إنما من رأسِ الهَرَمِ في الدَّولَةِ لأخمَصِ قَدميها، وهو ليسَ وليدَ اللَّحظَةِ الحالِيَّةِ إنَّما هو مُتَوارَثٌ مُنذُ نَشأةِ لُبنان التَّوافُقيَّة، إذ لكُلِّ طائفَةٍ مُرشِدُها الدِّيني، ولِكُلِّ مَذهَبٍ رَئيسُهُ الذي يُدافِعُ عن مَصالِحِه، ولِكُلِّ مِنطَقَةٍ حاكِمُها الفِعلي، وكُلُّ جِهازٍ مَحسوبٌ على طائِفَة، وَحدَهُ لُبنانُ الدَّولَةِ من دونِ رئيسٍ جامِعٍ لكُلِّ مُكوِّناتِهِ وأطيافِهِم، وجِهازٍ واحِدٍ يصونُ مَصالِحَه.
إنهُ العَجَبُ العُجاب في بَلدٍ مُفكَّكٍ، الكلُّ فيهِ مُتعنصِرٌ بانتِمائهِ الطَّائفي والمَذهبي، مُسامِحٌ في انتِمائِهِ الوَطَني مُتشدِّدٌ في ارتِباطِهِ الإقليمي. هذا البلدُ لم يعُد يَحتَمِلُ الإصطِفافاتِ المِحوريَّةِ الإقليميَّةِ، ولا الطَّائفيَّةِ والمّذهَبِيَّة، وهذا ما يدفَعُنا ونحنُ على بابِ استِحقاقٍ جَوهريٍّ مَصيريٍّ “أعني به الانتِخاباتُ الرِّئاسِيَّة”، أدعو جَميعَ المُكوِّناتِ السِّياسِيَّةِ، ومن بيدهِم الحَلِّ والرَّبْطِ أن يتَّقوا الله في وطنِهم، وأن يَسعوا إلى انتِخابِ رَئيسٍ مُتجَرِّدٍ من أيَّةِ انتِماءاتٍ فِئوِيَّة، مُتَحَيِّزٍ لانتِمائهِ الوَطنِي، وتَجَنُّبِ انتِخابِ رَئيسٍ مَحسوبٍ على أيِّ فِئةٍ من الإصطِفافاتِ الحالِيَّةِ التَّفريقِيَّةِ المَقيتة القاتِلَة.
أقولُ هذا منهياً بحِكمَةِ إعرابيٍّ “إن جنَّ رَبعُكَ عَقلَكَ لا يُفيد” اللهم اشهَد أني قَد بلَّغت.