في عصر الصراعات الثقافية، في منطقة متنوعة الاتجاهات والمنابع، جاء وجود علي شريعتي (1933-1977) ليُشكل أُسا قوّيا للفكر الجامع بين الفكر الديني والعصرنة.
مفهوم التنمية الثقافية
في كتاب (تطوير الثقافة – دراسة اجتماعية في مفهوم التنمية الثقافية عند علي شريعتي) الصادر عن مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي ضمن سلسلة الدراسات الحضارية، جهد كل من الباحثين الإيرانيين فيروز راد وأمير رضائي في هذا الكتاب الموسوعي، إذا صح التعبير، على مدى 350 صفحة من الحجم الوسط، في ترجمةِ سلسة لأحمد الموسوي، حيث جهد الباحثان في تقديم صورة وافية ونقدية لفكر وأصول المفكر علي شريعتي، شريعتي الذي يصفه البعض بـ”الليبرالي”، والبعض الآخر بـ”المفكر الديني الحداثوي”، مع رفض مجموعة أخرى له.
فرغم استشهاده، قبيل انتصار الثورة في إيران في العام 1977، إلا أن علي شريعتي الذي فتح الطريق واسعا أمام الايرانيين الباحثين عن حريتهم وكرامتهم بعيدا عن النظام الديكتاوري البهلوي، لا زال محط اختلاف حول كتاباته.
والسؤال الذي يلّح على مؤيديه هو: أيّ منصب كان سيستلم شريعتي في نظام ثوري يعتمد الدين أساسا لكل تشريعاته؟ وهل كان سيصير من رجالات الدولة بعد أن كان من رجالات الثورة والتغيير؟
تأثيرات الأفغاني وإقبال
عمل علي شريعتي، على طريق اسلافه بأفكار، من خلال تطويعها وفق مقتضيات عصره والمجتمع الذي عاش فيه والعالم وتحولاته. وبطبيعة الحال كان لكل من جمال الدين الأفغاني ومحمد إقبال تأثيرهما الكليّ على فكره وعلى تشكيل أفكاره.
فالأفغاني جمع بين التطور الغربي والقيم الروحية الإسلامية، فوّفر الأرضية للمسلمين من أجل التقدم، وهي تعد أهم خدمة يقدمها للفكر الإسلامي.
وليأتي بعده محمد إقبال ليكون امتدادًا للأفغاني وأنموذجًا رائعًا في القرن الأخير.
وفي تأثره بهاتين الشخصيتين زرع شريعتي البذرة لتشكيل فكره حيث اعتبر أن التشيّع الحقيقي يحوّل عناصر الضعف إلى عوامل صانعة للقوة.
علما أن شريعتي كان من اتباع رئيس الوزراء محمد مصدق، الذي ثار بوجه الاستعمار البريطاني، إذ وصفه شريعتي بـ “زعيمي مُصدق رجل الحرية”. كما كان حرًا في فكره فتأثر بكل من ألبير كامو المتمرد، وسارتر في سياق الكفاح السياسي ضد الديكتاتورية والاستعمار.
ففي أوروبا تعرّف على المدارس الفكرية كافة، كالماركسية والليبرالية والاشتراكية والوجودية والإنسانوية، وجيّر منها ما يتناسب مع إسلامه ودينه حيث رفض الخرافات والتشويه المُتعمد للدين. فكتب عن علي والحسين والتشيّع والاسلام بصورة حديثة، فيها عكس ما يُقدمه رجال الحوزة التابعين للشاه آنذاك.
ثورته اختمرت لتلد في شباط 1979 إلا أنه كان قد استشهد على يد رجال السلطة الذين ضاقوا ذرعا بخطاباته في حسينية إرشاد وفي أشرطته ومحاضراته في الجامعة وكل مكان، حيث كانت إيران تغلي من جميع الجبهات.
الكتابة والبحث حول شريعتي
فرغم مرور عقود على استشهاده، ورغم التغيرات التي لحقت ببلده والمحيطين العربي والإسلامي، لا زال القراء يبحثون عن أفكار وكتب علي شريعتي، ولا تزال كتبه تطبع مرات ومرات، وخاصة في لبنان، نظرا لأفكاره الثورية ولحفرياته في التراث الإسلامي الذي يحتاج إلى الكثير من التنقية والتطوير والتحديث والعصرنة.
عالم اجتماع إسلامي
رغم حبّه للفلسفة والتصوّف والشعر، اختار شريعتي دراسة علم الاجتماع في فرنسا بمنحة جامعية، نظرا لحاجة المجتمع الاسلامي للدراسات والحفريات والأبحاث التي ستؤدي بالنهاية إلى تطوره، حيث يكشف طبيعة دور علماء الاجتماع عورات هذا المجتمع المُحافظ والمتغلّف بغلاف تراثي، ليخرج منه إلى مدى رحب علمي صناعي نهضوي، وهو الغنيّ بالموارد المادية الأولية التي استخدمها الغرب لتطوير بيئته ومجتمعه.
الشباب
يجذب شريعتي الشباب بإسلوبه الثوري الذي يختلف عن اسلوب عالم الاجتماع الهادئ، ليقترب رويدا رويدا في كتاباته الكثيرة من نبض الشباب والثوار، وهو المتأثر بالأفغاني في حمله لواء التيار الديني الإحيائي، إذا صح التعبير، حيث جاء الدين كمنطلق للتغيير على عكس الثورات الغربية التي انتفضت على الدين وحاربته واستعملت العلمنة كأداة مُضادة من أجل الانتصار.
ففي عهد الشاه كانت التيارات الثقافية متنوعة، فمنها الحداثوي، ومنها الماركسي، ومنها القومي المتطرف للحضارة الفارسية، ومنها المتدين التقليدي، ومنها المثقف القومي والمثقف المُتدين. لكن شريعتي كان في خضم كل هذه التجاذبات عقلانيا مؤمنا باحثا عن الحرية والعقلانية، مواجهًا الاستبداد والتغريب معا.
كان شريعتي عالم اجتماع حقيقي، ملتزم برؤاه الإسلامية التي وضعها فوق علم الاجتماع الوضعي والماركسي.
تساؤلات
فهل أراد استنباط علم اجتماع إسلامي خاص بالبيئة الإسلامية التي كانت تنمو ببطء شديد في حينه؟ ومن ورث علي شريعتي في فكره النهضوي هذا؟ ومن هم تلامذته؟ وهل استمرت مدرسته وتياره؟ أم أنها انضوت تحت إطار مدارس ثقافية أخرى داخل إيران؟
وضمن هذه التقسيمات والتصنيفات: مع من يقف شريعتي؟ مع القوميين أم الدينيين أم المتغربين؟ الجواب في التالي: “كرس جلّ اهتمامه من أجل بعث الهوية القومية والدينية لمجتمعه وجيله وأمته”، حيث كشف في خضم التحديات التي واجهها ستار الخرافات والأوهام السوداء عن وجه الإسلام ليُبين نصاعته.
ويبقى السؤال: هل كان نزيها لهذه الدرجة حتى ثار ضد كل من: الماركسية والليبرالية والوجودية والإنسانوية وسائر الإيديولوجيات، إذ وضع نصب عينيه مقولة ألبير كامو الشهيرة: أنا متمرد إذن أنا موجود.. استنساخا لمقولة رينيه ديكارت: أنا افكر إذن أنا موجود.
الاختلاف حول شريعتي
ظلّ الاختلاف قائما حول كتابات علي شريعتي حتى اليوم، فجزء من القراء اعتبره ثوريًا نهضويًا، في حين اعتبره جزء آخر مؤيدا للنظام، رغم أن جمهوره هو من المثقفين الجامعيين الشباب الذين كانوا يتابعونه من حسينية إرشاد حول العالم. ومن هنا كانت مهمته ومهمة من يُعيد نشر نتاجه الثقافي والفكري حيث عمل على مقارعة الاستبداد واعادة قراءة المصادر الثقافية والدينية والسعي لأدلجة الدين في اطار حيّ ونابض.
فاليوم يقوم النظام الإيراني الحالي على فلسفة “أدلجة الدين” التي سعى إليها شريعتي منذ سبعينيات القرن الماضي قبيل انتصار الثورة الإسلامية في بلده.
من هنا، لا بد من الاعتراف أن شريعتي اطلق قبل الثورة الاسلامية ثورة ثقافية قلّ نظيرها في التاريخ، عبر طرحه مجموعة من المصطلحات الغنيّة والقيّمة، كالإمامة والعدل والاستضعاف، وهو بذلك يكون قد مهّد الطريق من أجل (العودة إلى الذات) حسب تعبيره.
أخيرًا…
الكتاب مكوّن من عشرة فصول. تتناول جميعها مسألة التنمية الثقافية من كافة جوانبها من خلال فكر علي شريعتي وتعتمد أكثر من 80 مصدر ومرجع فارسي في محاولة اعادة صياغة أفكار شريعتي، التي لا تزال مادة للبحاثة الجامعيين الجدد في العالم العربي والإسلامي، حيث في كل مرحلة مفصلية تخرج افكاره لتقول ما قاله منذ أكثر من 60 عاما.