يبدو أن المُحادثات الجارية لإحياءِ الإتفاق النووي الإيراني قد دخلت مرحلةً حرجة في الأيام الأخيرة، حيث قدّمت إيران ردّها على مسودّةِ اتفاقيةٍ وصفها مُنَسِّقُ السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل قبل أسبوعين بأنها “نصٌّ نهائي”. حتى كتابة هذه السطور، ليس هناك أيُّ قدرٍ من التفاؤل بأنه بعد أكثر من عامٍ من المفاوضات المُضنية، ستعود الولايات المتحدة وإيران إلى الامتثال للاتفاق المعروف رسميًا بـ”خطة العمل الشاملة المشتركة”.
هذا الاتفاق، الذي وَضَعَ قيودًا صارمة على قدرات إيران لتخصيب اليورانيوم في ظلِّ نظامِ رقابةٍ قوي من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، كان في غرفة العناية الفائقة منذ انسحاب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب منه في أيار (مايو) 2018. أعاد ترامب لاحقًا فرض عقوبات أحادية الجانب على إيران، والتي تم رفعها بموجب بنود خطة العمل الشاملة المشتركة، كجُزءٍ من حملة إدارته المعروفة بـ”الضغط الأقصى”، حيث سعت إلى إجبار طهران على التخلّي عن برنامج تخصيب اليورانيوم تمامًا، فضلًا عن كبح جماح برنامجها الصاروخي ووضع حدٍّ لتدخّلها للهيمنة في جميع أنحاء المنطقة، وهما أمران لم يتم تناول أيّ منهما في الصفقة.
لقد دمّرت العقوبات الاقتصاد الإيراني والذي تعرّض أيضًا لضربةٍ أخرى جرّاء جائحة كوفيد-19. لكنها لم تفعل شيئًا لتغيير حسابات إيران بشأن برنامج التخصيب أو مغامراتها الإقليمية. وبدلًا من ذلك، أخذت طهران تنتهك تدريجًا بنود خطة العمل الشاملة المشتركة، فزادت مخزوناتها من اليورانيوم المُخَصّب ومستوى تخصيبه، وبدأت أيضًا تشغيلَ أجهزةِ طردٍ مركزي متطورة ممنوعة بموجب الاتفاق النووي والتي تسمح بتسريع وزيادة التخصيب. كما أنها قلّلت من قدرة الوكالة الدولية للطاقة الذرية على مراقبة برنامج التخصيب الإيراني، ما عرّضَ للخطر سمةٌ حاسمة لخطة العمل الشاملة المشتركة التي قلّلت من قدرة طهران على تحويل المواد الانشطارية سرًّا إلى برنامجِ أسلحةٍ نووية مَخفي.
في الوقت نفسه، واصلت إيران دعم مجموعةٍ من حركات التمرّد والجهات الفاعلة غير الحكومية في جميع أنحاء المنطقة، حيث عزت واشنطن سلسلة من الهجمات على ناقلات نفط سعودية وغارة دقيقة بطائرة مُسيَّرة على منشأة نفطية سعودية إلى طهران دعمًا لوكلائها الحوثيين في اليمن. وبلغت التوترات ذروتها في كانون الثاني (يناير) 2020 باغتيال الولايات المتحدة للقائد العسكري الإيراني البارز الجنرال قاسم سليماني في غارةٍ بطائرةٍ مُسَيَّرة خارج مطار بغداد. وردّت إيران بهجومٍ صاروخي باليستي على قاعدة عسكرية تضمّ قوات أميركية في شمال العراق.
على الرغم من تراجع كلا الجانبين لاحقًا عن حافة الصراع العسكري، كانت العلاقات بين العدوَّين اللدودَين عندما تولّى الرئيس جو بايدن منصبه في كانون الثاني (يناير) 2021 في أدنى مستوياتها منذ ربما أزمة الرهائن التي أعقبت الثورة الإسلامية الإيرانية. ومما زاد الأمور تعقيدًا أن برنامج التخصيب الإيراني كان أكثر تقدّمًا وأقرب مما كان عليه في أي وقت مضى إلى “الاختراق النووي”، وهي العتبة النظرية التي سيكون لإيران عندها ما يكفي من اليورانيوم المُخصَّب لصنع رأسٍ نوويٍّ فعّال، إذا قرّرت القيام بذلك.
على الرغم من قيامه بحملته الانتخابية على وعدٍ بإحياء خطة العمل الشاملة المشتركة كجُزءٍ من صفقةٍ أوسع تشمل برنامج الصواريخ الإيراني والسلوك الإقليمي، إلّا أن بايدن خسر مع ذلك ما قال عنه النقاد أنه وقتٌ ثمين في إعادة فتح المفاوضات بعد تولّيه منصبه. وبمجرّد بدء المحادثات، رفضَ فريقه قبول اتفاقية “العودة المُتبادَلة إلى الامتثال” البسيطة لإعادة شروط خطة العمل الشاملة المشتركة. ونتيجة لذلك، استمرّت المحادثات إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية في حزيران (يونيو) 2021، والتي فاز بها المحافظ المتشدّد إبراهيم رئيسي. وقد أدّى التغيير في الإدارات إلى تأخير المفاوضات، وعندما استؤنفت، كان موقف طهران أكثر تشدّدًا.
المشكلة الأساسية التي يواجهها كلا الجانبين الآن ذات شقين. أوّلًا، لم يعد المنطق الكامن وراء خطة العمل الشاملة المشتركة باعتبارها اتفاقية الحدّ من الأسلحة صالحًا لأيٍّ من الطرَفَين. بالنسبة إلى الولايات المتحدة، كان المقصود من الصفقة ليس فقط تقييد قدرة إيران على تكديس المواد الانشطارية اللازمة لصنع سلاح نووي، ولكن أيضًا للحدّ من تقدّمها التقني في إتقان دورة التخصيب. حتى لو وافقت طهران مرة أخرى على شحن مخزونها من اليورانيوم المُخصّب خارج البلاد ووقف وإزالة أجهزة الطرد المركزي المتقدمة، فإن المعرفة التي اكتسبتها في السنوات الخمس الماضية لا يمكن تجاهلها.
وبالمثل، بالنسبة إلى إيران، كان الهدف من الصفقة ليس فقط إزالة العقوبات العقابية، لا سيما على قطاعها النفطي، والتي أثّرت في الإيرادات الحكومية، ولكن أيضًا لخلقِ بيئةٍ استثمارية مُستقِرّة وآمنة للاقتصاد الإيراني المُختَنِق. قبل انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة، اشتكت طهران من أن الصفقة لم توفّر اليقين الكافي للشركات الغربية للتغلّب على مخاوفها بشأن الاستثمار في إيران. إن معرفة أن الصفقة في الواقع لا توفّر أيّ حماية على الإطلاق من إدارةٍ رئاسية مُعادية في واشنطن لن تؤدّي إلّا إلى تأجيج تلك المخاوف.
ثانيًا، كان الهدفُ الأوسع للاتفاق الذي يتجاوز الحدّ من التسلّح هو إرساءَ عنصر الثقة في العلاقات الثنائية، وكذلك في جميع أنحاء المنطقة. على الرغم من بيع خطة العمل الشاملة المشتركة على أساس مزاياها الخاصة باعتبارها تُقيّدُ برنامج التخصيب الإيراني، كان الأمل في أنها قد تعمل كخطوة أولى في عملية تدريجية من المشاركة والانفراج يمكن من خلالها أن تحلَّ الترتيبات الأمنية الإقليمية الأكثر استدامة تدريجًا محل المشهد الحالي من عدم الثقة والتنافس والصراع بالوكالة. الآن، أيًّا كانت الثقة التي نشأت –أو على الأقل، قنوات الاتصال المفتوحة– فإنها قد فُقِدَت في جميع الاحتمالات بشكلٍ لا رجوع فيه.
قد يؤدّي إحياء الصفقة إلى إزالة –على الأقل للفترة المتبقية من سريانها– سببٍ رئيس للتوترات في جميع أنحاء المنطقة، ويُمكن أن يخلقَ ذلك مساحة أكبر لتشجيع جولة الإنخراط الديبلوماسي الإقليمي الذي يجري بين إيران وخصومها، وخصوصًا مع السعودية. ولكن حتى إذا تمّ إحياء الاتفاق النووي، فمن غير المرجح أن يُغيِّرَ بشكلٍ هادفٍ طبيعة العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة وإيران أو أن يُوفِّرَ “رصاصة سحرية” للمصالحة الإقليمية، ما يعني أن التعامل مع إيران سيظلّ يُمثّلُ تحدّيًا لبايدن وخلفائه في البيت الأبيض في المستقبل المنظور.