الاستخراج الآن… ولا مشكلة إذا تأخر الترسيم | كتب أحمد بهجة
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
نعيش اليوم عصر الإعلام المفتوح الذي لم يعد محصورًا بجريدة نقرأها في الصباح، أو راديو نقلّب بين موجاته نهارًا خاصة في زحمات السير التي تبقينا في سياراتنا لساعات طويلة أحيانًا، أو شاشة صغيرة في المنزل نسهر أمامها ونتابع من خلالها نشرات الأخبار وبعض البرامج الحوارية التي تتفاوت في مستوياتها بين الجيد المليء بالمعلومات والتحليل الرصين وبين الهابط الذي يصحّ فيه القول إنه “صفّ حكي” و”بلا طعمة”.
اليوم اختلفت الأمور حيث صار بإمكان كلّ شخص يحمل هاتفيًا ذكيًا أن يُقدّم نفسه على أنه إعلامي ويعطي لنفسه الحقّ في تحليل الأحداث رغم أنّ معلوماته تكون غير مؤكدة ولا مستندة إلى الوقائع والحقائق…
ينطبق هذا الأمر على كلّ القضايا والملفات المطروحة، لا سيما أخيرًا موضوع ترسيم الحدود البحرية واستخراج النفط والغاز، وقبل ذلك ومعه وبعده موضوع الفساد في القطاعين العام والخاص والسرقات والسمسرات واختفاء أموال الناس من مصرف لبنان والمصارف الخاصة وتهريبها وتحويلها إلى الخارج بمشاركة بعض كبار القوم من السياسيين ورجال الدين والإعلاميين…
لا اعتراض طبعًا على تطوّر وسائل الاتصال والتواصل، بالعكس تمامًا لأنّ الأمر مفيد جدًا ويسمح بتبادل المعرفة بسرعة هائلة، لكن ككلّ الاختراعات المفيدة والجيدة في التاريخ، يتمّ استخدام وسائل الإعلام والاتصال الحديثة بطرق ملتوية وأساليب مشبوهة لترويج الأكاذيب والادّعاءات الفارغة من أيّ مضمون، والإصرار على نقل “الخبريات” من هنا وهناك وبثها بشكل متكرّر لتصبح هي الخبر الشائع بين الناس، حتى لو تمّ التوضيح أو التكذيب لاحقًا فإنّ ما يعلق في الأذهان عادة هو الخبر الأول.
الآن نعود أولًا إلى موضوع الفساد وسرقة أموال الناس وودائعهم بالتكافل والتضامن بين عدد من المسؤولين الذين تعاقبوا على سدة المسؤولية في مواقع مختلفة في الدولة لا سيما في القطاع المالي والمصرفي ومعهم عدد من المسؤولين في القطاع الخاص (المصارف تحديدًا) ورجال الدين والإعلاميين، حيث ضاعت مئات مليارات الدولارات على البلد واقتصاده وناسه، وفي المقابل ليس هناك من فاسد واحد أو سارق واحد أدخل إلى السجن أو تمّت محاكمته على ارتكاباته الواضحة وضوح الشمس، والتي يحاول بعض الإعلام والمتطفلين على الإعلام التعمية على الحقائق والوقائع، وجعل اللبنانيين يصدّقون أنهم هم سرقوا أنفسهم وتسبّبوا بكلّ هذا الدمار الاقتصادي اللاحق ببلدهم على كلّ المستويات، حتى وصلت الوقاحة ببعض أولئك المتطفلين إلى حدّ ترشيح مجرم مثل رياض سلامة لرئاسة الجمهورية!؟
أما في موضوع الترسيم، فقد تلتبس الحقائق أمام البعض من كثرة “الخبريات” التي يتمّ ترويجها، وتختلط الأمور حتى على العارفين أحيانًا، فيصبح الترسيم هو نفسه الاستخراج مع أنّ هناك فارقًا شاسعًا بين الأمرين…
الحقيقة الساطعة التي يجب التركيز عليها هي أنّ الترسيم شيء والاستخراج شيء آخر، لأنّ الترسيم يتعلق بحقول وخطوط متنازع عليها، أما الاستخراج فيطال كلّ المياه وكلّ الأرض، حيث يستخرج العدو “الإسرائيلي” اليوم الغاز والنفط من الأراضي والمياه الفلسطينية المحتلة وصولًا إلى الحدود مع مصر وقبرص، وذلك باستثناء حقل كاريش الذي ينتظر انتهاء الترسيم مع لبنان حتى يبدأ استخراج منه بعدما انتهت مرحلة الاستكشاف والحفر منذ مدة حين كان لبنان الرسمي غافلًا حتى لا نقول متواطئًا بدليل ما فعله رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة في العام 2007 حين أوفد ومن دون أيّ قرار من مجلس الوزراء، ومن دون أيّ تشاور مع رئيس الجمهورية آنذاك العماد إميل لحود، أوفد مدير عام النقل البري والبحري عبد الحفيظ القيسي الى قبرص للتفاوض باسم لبنان على الحدود البحرية اللبنانية ـ القبرصية.
خلصت اللقاءات الى وضع “النقطة 1” كأقصى النقاط الجنوبية لحدود لبنان البحرية القبرصية. ولم ينته الأمر عند هذا الحدّ، بل فوّض الوفد اللبناني قبرص التفاوض مع كيان العدو على الحدود البحرية باسم لبنان بدون أيّ مسوّغ قانوني ولا دستوري.
بموجب تلك التواقيع المشبوهة كان العدو ربما سيستخرج الغاز من بحر صيدا! لكن تنبّه الرئيس لحود آنذاك، واليوم الرئيس العماد ميشال عون وقيادة الجيش، وبالطبع تتكامل معهم المقاومة التي فرضت جملة معادلات واضحة وراسخة، أهمّها معادلة “ما بعد ما بعد كاريش” التي تحمل في طياتها كلّ المعاني والدلالات، وهي أبعد من الترسيم الذي يريد بعض الذين يعملون بإيحاءات خارجية أن يجعلوها قضية القضايا فيما المطلوب هو التركيز على استخراج لبنان غازه ونفطه من كلّ البلوكات البحرية ومن كلّ نقطة في البرّ قد يكون فيها نفط وغاز…
لا بدّ أنّ رسائل المقاومة قد وصلت مباشرة إلى مَن يجب أن تصلهم، وهم يعلمون ماذا عليهم أن يفعلوا لكي يتجنّبوا الاحتمالات التي لا يريدونها، وأوّل ما يجب أن يفعلوه هو إعطاء الإشارة لمسؤولي شركة “توتال” للعودة إلى لبنان واستئناف الحفر والنقيب في البلوك رقم 4 وبدء العمل في البلوك رقم 9، مع شريكتهم “إيني” الإيطالية بعد انسحاب شركة “نوفاتك” الروسية من أجل تسهيل الأمر على لبنان، باعتبار أنّ الحرب الروسية ـ الأطلسية في أوكرانيا تحول دون استمرار التعاون بين الشركات الثلاث، أما الترسيم المتعلق بحقلي قانا وكاريش فلينتظر لا مشكلة، لربما نرسّم مستقبلًا مع أشقائنا الفلسطينيين بعد إزالة الكيان المؤقت من الوجود…