افتتح الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون صفحةً جديةً من العلاقات مع الجزائر وكان عنوانها “الإعتذار” وتصحيح مسار العلاقات الديبلوماسية بعدما انقطعت مجالات التعاون في ملفي الطاقة والغاز والاستثمارات التجارية والإقتصادية.
انطوت زيارة ماكرون إلى الجزائر قبل أيام يرافقه “أفضل وزرائه” مع نُخب سياسية ومالية وثقافية في الشكل والمضمون على إقرار بـ “تعاون” كبير للدولة المُضيفة، وكذلك الإتفاق على العمل لـ “بلسمة الجروح المتوارثة من الحقبة الاستعمارية” ومنها مسألة التجارب النووية التي قامت بها فرنسا في الجزائر.
وإذا كانت “نكهة الطاقة” هي الأكثر إنبعاثًا من الزيارة، لكن الملفات الأخرى التي شملتها بحثًا ومناقشةً تحمل الكثير من التعاون الثنائي الهام بين البلدين خصوصًا في مجالات الأمن، حيث شغلت عناوين “مكافحة الارهاب” و” الهجرة غير الشرعية” وملف الأمن القومي في مالي ومنطقة الساحل الإفريقي حيزًا وازنًا من النقاشات التي شملت أيضًا الاستثمارات التجارية والاقتصادية، والوساطة مع إسبانيا والمغرب.
الجوهر السياسي والعسكري للزيارة
تعددت القراءات التي تناولت الزيارة .منها من حصرها بـ “محاولة ترميم” العلاقات المتوترة بين البلدين. غيرها ذهب إلى تحديدها في “أًطر تجارية واقتصادية ومنفعية أجبرت فرنسا على هذه المبادرة”. ثالث التقديرات وصفها بأنها من ضمن “الواقعية السياسية”. وللحق، فهي تشمل العناوين هذه كلها، لكن ما يجعل منها “زيارة مميزة” هو جوهرها السياسي والعسكري المزدوج.
صحيح أن أصل الخلاف بين فرنسا والجزائر من طبيعة استراتيجية ويستلزم حله الكثير من الوقت، لكن هناك ما هو داهم على فرنسا إقتصاديًا وعسكريًا. لذا كانت الزيارة في ظل الازمة الاقتصادية الاوروبية الناجمة عن الحرب الروسية على أوكرانيا وتراجع الحصة الفرنسية من الشركات الاستثمارات الجزائرية. كما كان هناك مستجد هام جدًا للفرنسيين ألا وهو “الأمن الأفريقي” الذي طرأ عليه حضور روسي وإيراني منفصل عن بعضه لكنه توازى بالأداء.
1ـ على المستوى العسكري والأمني، أدّى انسحاب القوّة الفرنسية “برخان” من مالي إلى حصول فراغ أمنيّ ميداني، وتعوّل السلطات الماليّة على ميليشيا “فاغنر” الروسية من أجل ملئه. عملية برخان هي عملية عسكرية فرنسية انطلقت لمكافحة التمرد في منطقة الساحل الأفريقي في 1 آب عام 2014، ومقرها كان في نجامينا عاصمة تشاد. وقد تم تشكيل العملية مع خمسة بلدان، امتدت في منطقة الساحل الأفريقي: بوركينا فاسو، تشاد، مالي، موريتانيا والنيجر. هذه البلدان المشار إليها تُعرف باسم “جي 5 الساحل.”
بدأ التوجّس الفرنسي من التقارب الحاصل بين كلّ من باماكو وموسكو، ومن زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان لمالي. وازداد القلق الباريسي من الطموحات الطارئة لإيران وروسيا في إفريقيا. وتعاني فرنسا من كثرة المنافسين لها على مروحة نفوذها التقليدية، ومحمية أمنها القومي الإفريقي، التي تخشى أن تتحوّل إلى خاصرة رخوة لها في مناطقها التقليدية.
تحاول فرنسا أن تحوّل الوجود الأمنيّ في إفريقيا ومالي من فرنسيّ إلى أوروبيّ، عبر تحالف يُسمّى الجيش الأوروبي، إن نجح، أو من خلال الناتو، ولو أنّه صعب. ذلك أن عمليّة “برخان” بالأصل كانت تحت مظلّة دوليّة مشتركة، وهنالك آفاق جديدة لمسوّدات متعدّدة في هذا الإطار، ومنها أن تكون القوّة دولية شبيهة بالقوات المؤقّتة للأمم المتحدة في لبنان، أو قوّة إفريقية لمكافحة الإرهاب بمساعدة دولية بحسب الاتفاقيات الدولية ومواثيق القانون الدولي، تساعدها قوّة متماسكة من أجل مكافحة الإرهاب بالتعاون مع الجزائر والقوات المحلّيّة لخلق مناطق آمنة أمنيًّا ومنزوعة السلاح. وعمليًا، لم تعُد فرنسا قادرة بعد انسحابها أمنيًّا من مالي على التدخّل مباشرة على الأرض، فهي تفضّل وتريد التعاون مع الجزائر، تقديرًا لجهود الأخيرة في مكافحة الإرهاب، وخصوصًا أنّها هي عرّابة اتفاق السلام عام 2015. والهم الفرنسي الضمني كان في كيفية قطع الطريق على توغّل روسيا الأمنيّ والاستراتيجيّ، وتطويق التحالف الجزائري معها.
وفي الشق الديبلوماسي ـ الأمني ، حضر ملفّ الصحراء والخلاف الجزائري المغربي والنزاع مع إسبانيا. ولذلك تسعى فرنسا واستعادة نفوذها في إفريقيا وتحصين مكانتها في أوروبا، وتحتاج الجزائر إلى تمتين دورها الواقعي، ولهذا ضغطت على إسبانيا من بوّابة الطاقة كسلاح قوميّ بدبلوماسيّتها الأمنيّة.
2 ـ على المستويات الإقتصادية والتجارية ، كان الهدف تقويم العلاقة الثنائية ومواجهة الشراكة الجزائرية ـ الأوروبية غير الفرنسية والمنافسة الألمانية والإيطالية، وحتى التركيّة أيضًا، ووقف تسرّب الصين الاقتصادي في القارّة الإفريقية واحتوائه، ولا سيّما أنّ الصين باتت الشريك التجاري الأوّل للجزائر.
هذا في العام، لكن في المضمون ركز ماكرون ومرافقوه على تداعيات أزمة الطاقة، فهنالك حاجة فرنسية وأوروبية ماسّة إلى النفط والغاز الجزائريَّيْن من أجل تعويض النقص الروسي، والجزائر باتت وجهةً للعديد من الدول الأوروبية الباحثة بـ “تودّد” عن بديل للطاقة الروسية، وهي مادّة مؤثّرة في العلاقات لتشابكها مع العديد من الملفّات. لذلك تسعى إلى ضمان الطاقة من شريك تقليدي يتمتّع بالثقة.
تطمح الجزائر إلى إحياء مشروع “مدكات” غير المنجز عبر بناء أطول أنبوب غاز من نيجيريا إلى البحر المتوسط بهدف توصيل الغاز الجزائري إلى وسط أوروبا عبر البرينيه. ويمرّ هذا الأنبوب عبر إسبانيا إلى فرنسا، ولذلك تريد الأخيرة مصالحة الجزائر مع إسبانيا والمغرب، فما هي الأوراق التي يحوزها ماكرون لحلحلة هذا الملفّ؟. الأنبوب حاجة ومسألة أساسية لأنّه يمثّل بديلًا وأكثر أمانًا من خط أنبوب السيل الشمالي (1-2) الذي يمرّ في البلطيق، وهو دلالة على أهميّة الجزائر كمورّد استراتيجي للطاقة، وبديل لتعويض نقص الغاز الروسي، فهل أصبحت فرنسا مؤيّدة لأنبوب “مدكات” على الرغم من تفضيلها استراتيجيا العلاقات الثنائية المباشرة بين الجزائر وغيرها من الدول؟
تشكّل الزيارة بريق أمل للإسبان لجهة تهدئة التوتّر بينها وبين الجزائر. وكلام مدريد عن أنّ “حلّ ملفّ الصحراء لا يكون إلا من خلال إطار الأمم المتحدة” سيدفع الجزائر الى الدفع بنيّة حسنة أكثر والتنازل المفيد، لصالح المصالح الاستراتيجية والاقتصادية. فالعلاقات الجزائرية الإسبانية متينة. والجزائر ملتزمة بعقود الغاز على الرغم من تحيّز مدريد للرباط، وبالتالي فإنّ إحياء المشروع عبر نوع من الوساطة مطروح مع أنّ العلاقة الفرنسية الجزائرية بحدّ ذاتها تحتاج إلى وساطة أيضًا لكسر الجليد بينهما، ومن أجل ذلك يسعى ماكرون إلى جمع مسؤولي كلّ من الجزائر والمغرب وإسبانيا في قمّة باريسية لإنهاء الخلاف، فهل فرنسا مؤهّلة للعب دور الوساطة مع أنّها غير حيادية ومؤيّدة للفكرة المغربيّة؟
لقد عادت العلاقة بين فرنسا والجزائر إلى صيغتها الأولى، لكنّها ليست بحميمة بعد توتّر دام سنة إلا شهرًا. إلا أنّ ثمّة رغبة متبادلة بينهما في إعادة تطبيع العلاقة وبندّيّة تامّة ومع مراعاة توازي المصالح. فموضوع الطاقة في الصحراء نافذة لهذه الشراكة، وفرنسا تحاول من خلال دبلوماسية الكواليس والمبادرات أن تحلّ هذه المشكلة للاستفادة سريعًا، وهي التي تحاول التأقلم بواقعية أكثر مع الظروف الراهنة.
فرنسا لم تعد كما كانت، وكذلك الواقع بالنسبة إلى الجزائر التي أصبحت في مركز أقوى، وعلى الأقلّ بفعل الحاجة إلى النفط والغاز، ولذلك تعمل فرنسا على إحداث “وخز إيجابي” في التقارب التاريخي، بالاتفاق مع الرئيس الجزائري على إرساء شراكة استراتيجيّة مفيدة، تمهيدًا لمصالحة عمليّة وليس فقط لمبادرات رمزية أو معنوية، فهل ينجح ماكرون في إيجاد صيغ توافقية وتوفيقية؟