الصين الشعبية.. والخيار الاشتراكي | بقلم مسعود أحمد بيت سعيد
قبل عام تقريبًا وفي الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني، ألقى الرئيس الصيني شي جين بينغ كلمة تاريخية مُهمة، استعرض خلالها الماضي المجيد للأمة الصينية العظيمة الذي يرجع إلى 5 آلاف سنة، وإلى كفاح شعبها المجيد منذ “حرب الأفيون” عام 1840 وحركة مملكة تايبينغ السماوية وحركة 1898 الإصلاحية وثورة 1911 وإلى ثورته المعاصرة بقيادة الزعيم التاريخي ماو تسي تونغ؛ وعن التجربة الاشتراكية ذات الخصائص الصينية التي أحدثت تحولًا تاريخيًا من “نظام الاقتصاد المخطط العالي المركزية، إلى نظام السوق الزاخر بالحيوية والنشاط”، على حد قوله، وإلى ضرورة الدمج بين المبادئ الأساسية للماركسية والواقع الملموس والعمل على مراقبة مستجدات العصر ومواكبتها وإرشادها بماركسية القرن الواحد والعشرين وأن لا يمكن إنقاذ الصين وتنميتها إلا بالاشتراكية، وشدد على مقدرتها على الدفاع عن وجودها ومصالحها.
في كل هذه النضالات ظلت الغاية واحدة “تحقيق النهضة العظيمة للأمة الصينية”، ولسنا في وارد تناول التجربة الاشتراكية الصينية من جميع جوانبها؛ فهي غنية وواسعة ومتشعبة وتحمل في مضمونها قيمًا ومعاني ودلالات كبرى، يُشكّل جزء منها حلم البشرية الطامحة للعدالة الاجتماعية والتقدم والاستقرار، وتمثل في الوقت ذاته إحدى الخيارات الملموسة أمام شعوب العالم التي يطحنها البؤس والجوع والحرمان في ظل المنظومة الراسمالية القائمة على الاستغلال والعمل المأجور والاضطهاد. ولستُ بصدد المفاضلة بين النظريتين الاشتراكية والرأسمالية؛ فالموضوع ليس سجالًا نظريًا وإنما صراع تاريخي مفتوح؛ حيث يشكل التناقض التناحري بين الرأسمال والعمل جوهر حركة النشاط الفعلي للبشرية وصراعها، بمعزل عن وجود الأطر والهياكل المعبرة عنه من عدمها. ولسنا كذلك في وارد الانضمام إلى جوقة المنظرين المبشرين بقرب انهيارها في هذه اللحظة دون معطى موضوعي، والتي تعد من قضايا المستقبل غير المدرجة على جدول الأولويات بشكل جدي إلى الآن؛ حيث الانتقال من تشكيلة اقتصادية واجتماعية وسياسية لم تستنفد كامل مقوماتها وأغراضها ووسائلها بعد؛ إلى تشكيلة أرقى في سلم التطور الاجتماعي عملية تاريخية طويلة لها شروطها ومحدداتها والتي لا تتحقق بناء على الرغبات الذاتية فقط، وإنما مرهونة باشتراطات محددة ومنها البديل الطبقي ذي المعالم الواضحة وهو بالطبع غير متبلور بشكل كاف في الوقت الحاضر.
ورغم تنوع الخارطة السياسية العالمية التي تموج بالتناقضات فإن الجنوح نحو اليمين المتطرف ظاهرة بارزة وملامحها شبه مكتملة، قد لا تكون معبرة عن الواقع الاجتماعي بشكل دقيق، ولكنها تبقى في كل الأحوال مؤشرا يمكن من خلاله استشراف الأفق المقبل وتطوراته خصوصا في معاقل الرأسمالية الرئيسية، دون إغفال بداية التحولات في طبيعة وتركيبة النظام الدولي وعدم استقراره؛ الأمر الذي يعطي للرأسمالية- كأيديولوجية- طبقية مقومات وممكنات الديمومة لعقود قادمة. وقد يطرأ عليها عقلنة أو تضطر تحت ضغط النضالات الشعبية والجماهيرية المطلبية ذات الصبغة الإصلاحية إلى إجراء تحسينات وترقيعات وتقديم تنازلات هنا أو هناك تمتص عبرها شحنات الغضب وتجهض بعض المطالب قبل تجذرها.
كل ذلك ممكن، لكن نمط علاقاتها ربما سيطبع على الأقل نصف القرن المقبل بطابعها، وهي ما زالت تتمتع بمزايا عدة وأهمها على الإطلاق برجماتيتها والهوامش الديمقراطية التي تمكنها من المراجعة والتجديد دون الخوف من المحظور الأيديولوجي.
إن الصين الشعبية الاشتراكية تقدم نموذجًا آخر يستحق المتابعة والاهتمام والاستفادة من جوانبها الإيجابية،؛ حيث وفرت التجربة الصينية وخصائصها حيزًا معقولًا من التنمية والعدالة الاجتماعية وكسرت تلك النظرة الخاطئة القائلة إن الاشتراكية تحد من قدرة الخلق والإبداع اللذين لا يزدهران إلا في ظل الرأسمالية. وللتعايش السلمي الاجتماعي وفق الصيغة الصينية الجديدة محفزات تُلهم الجهد البشري الخلّاق في سعيه المستمر نحو غد أفضل؛ حيث استطاعت تخطي معظم الإشكاليات المعقدة التي تعيد إنتاج الأزمات والحروب والمجاعات.
تلك هي الاشتراكية التي تحدث عنها الزعيم الصيني على طريقته، وما زالت التحديات كبيرة أمام تجربتها التي تتعايش فيها أنماط اقتصادية واجتماعية متناقضة والتي ستطيح إحداهما بالأخرى مع مرور الأيام، وما لم ترفدها تحولات على الصعيد العالمي تبقى قابلة لكل الاحتمالات؛ حيث التحالف الطبقي القائم وتجربته محاصرة في جوانبها الفكرية والسياسية من جميع الاتجاهات، بينما البرجوازية الصينية- ورغم قلة عددها قياسًا بحجم الطبقة العاملة والجبهة المتحدة- فإن تأثيرها كبير، وتتمتع بدعم الرأسمالية العالمية وشبكة علاقاتها وتحالفاتها الواسعة التي تغذي نزعة الملكية الخاصة الاستغلالية الأنانية المتجذرة في النفس البشرية بحكم العادة، طيلة آلاف السنين، وهو التحدي الأكبر امام التجربة الاشتراكية.
ولا شك أن البرجوازية الصينية تنتظر اللحظة التاريخية لتقديم نفسها بشكل مستقل رغم محدودية فرصها في الظرف الراهن.