جوجلة تقييمية في رحاب الربيع العربي وما أفضى إليه | كتب العميد د. عادل مشموشي
يبدو أنه راقَ للإدارَةِ الأميركيَّةِ ما حقَّقتهُ في مُخطَّطِ الربيع العربي الذي أوشكَ تنفيذُهُ في مراحِلِهِ الأخيرِة، فأطلَقَت مَشروعاً جَديداً بذاتِ المَنهجيَّةِ التي سبقَ واعتَمدتها، ولكن على نطاقٍ أشملِ ومن دون الإفصاحِ عنه، ألا وهو الربيع الدَّولي. هذا الرَّبيعُ الذي يبدو أنَّه وُضِعَت أسُسُهُ وحُدِّدَت أُطرُ وآليَّاتُ تنفيذِهِ أيامَ وزيرَةِ الخارِجِيَّةَ الأميركيَّة السَّابقةِ غوندوليزا رايس وتبنَّته بعدها هيلاري كلينتون، كما ويبدو أنه توافَرت ظُروفٌ ملائمةٌ لتنفيذِهِ في ولايَةِ الرئيس جو بايدن. وتَسهيلاً على القارئ لِفَهمِ أبعادَ ما حَصلُ وسَيَحْصَلُ، لا بُدَّ من التَّذكيرِ بأهمِّ معطياتِ الربيعِ العربي وأحداثِهِ وما تَمخَّضَ عنه.
لقد بدأ الرَّبيعُ العربي بحصرِ الرئيس العراقي في زاويةِ لم يكن بإمكانِهِ الإفلاتَ منها، إذ جوبِهَ بمَطلبِ تَسليمِ ما لديهِ من أسلِحَةِ دَمارٍ شَامِلٍ، زُعِمَ أنها بحوزةِ نِظامِه وفتحِ منشآتِهِ العسكريَّةِ وغيرِ العسكريَّةِ للتفتيش، هذا الأمرُ لم يأتِ من فراغٍ، إنما جاءَ ردَّاً على شعورِ صدَّام بزهوِّ انتِصارِه على إيران، هذا الزُّهو الذي لم يرُق للمُعسكرِ الغربي كما للكيانِ الإسرائيلي، وبعضِ الدُّولِ العَرَبيَّة، ولم يحظ بآليَّةٍ لتَصريفِهِ لدى الإدارَةِ الأميركِيَّة.
ما كادت إيرانُ تُعلِنُ هزيمَتَها بتاريخ 8 آب 1988 في الحربِ التي شنَّها صدَّام حينها ضدَّها بتاريخ 22 أيلول 1980 رداً على قصفِها لبلداتٍ عراقيَّة حدوديَّةٍ معها، وللحدِّ من محاولاتِها تصديرِ الثورَةِ إلى العراق ودولِ الخليجِ العربي، بانصياعِها لقرار مجلس الأمن رقم 598/1987، حتى انتاب صدَّام حسين شُعورٌ بالعَظمَة، مُتجاهلاً أن انتصارَهُ ما كان لِيَحصَلَ لولا الدَّعمِ اللَّامَحدودِ السِّياسِي واللوجِستي والمالي الذي حَظِيَ به من بعضِ أشقَّائهِ العرب وبخاصَّةً دولِ الخليجِ العَربي. ما دَفعَ بالكويتِ للمُطالَبَةِ بدِيونِها المالِيَّةِ المُستَحِقَّةِ على العراق، وجاءَ الجَواب أنَّها صُرفَت في مَعرَضِ الدِّفاعِ عن دولِ الخليجِ وأنظمتها، فما منها إلاَّ أن باعَت ديونَها لشَرِكاتٍ أميركِيَّة، الأمرُ الذي أغاظَ صَدَّام، وتسبَّبَ بتوجُّسٍ دُولِ الخليجِ كافَّة من موقِفِه؛ وما زادَ في الأمورِ ريبةً، عرضُ صدَام على العاهلِ السُّعودي توقيع اتِّفاقيَّةِ عدم اعتِداءٍ بين البلدين وكان له ما أراد، ولكنَّ هذا الأمرُ نبَّه المغفورُ له الملك فهد بن عبد العزيز إلى نوايا صدَّامِ المُبَيَّتةِ وغير المُريحَة، والتي تُرجِمَت في ما بعدُ بِغزوتِهِ للكُوَيت، بعد أن أوحَت له السَّفيرَةُ الأميركيَّةُ لدى العِراق أبريل غلاسبي أنه ليس لدى واشنطن التزاماتٌ دفاعِيَّةٌ خاصَّةٌ تجاهَ الكويت، وهذا ما فهمه صدَّام على أنه ضَوءٌ أخضر، يدغدغُ الطموحاتِ العراقيةِ المُتمثِّلةِ بضمِّ الكويتِ للعِراق.
وما إن دخلَ الجيشُ العراقي إلى الكويت حتى تصاعدت ردَّاتُ الفعلِ المُندِّدة بالغزو، وأنشئ تَحالفٌ دولي عَسكري بقيادةِ الولاياتِ المُتَّحِدةِ وطُعِّمَ بمُشاركاتٍ عربيَّة مُتواضِعَة، وضُربَ الجيشُ العِراقي بينما كان على وشكِ إنهاء انسحابهُ من الكويت، وأضحى العراقُ في شبه عُزلَةٍ دوليَّةٍ وعربيَّة إلى أن أُنهِكت قواه، وتقرَّرَ القضاءُ على حُكمِ صدَّام، وضربُ العراقُ ودُمِّرت بُناه التَّحتيَّة، وفُكِّكِ جيشُهُ تحت ذريعَةِ إخفاءِ النِّظامِ لأسلِحَةِ دمار شامل، لم يُعثرُ على أيِّ دليلٍ على وجودِها، لا قبلَ الحربِ ولا بعدها، ونُصِّبَ حاكمٌ أميركيٌّ على العراقِ، الذي بدورِه قرَّرَ حلَّ الجيشِ العِراقي. وأتيحَ لإيرانَ التَّغلغلَ في العِراق، وأُعدِمَ صَدَّام حُسين بنتيجَةِ مُحاكماتٍ صُوَرِيَّة، بإشرافٍ أميركيٍّ وحُضورِ ألدِّ خُصومِهِ السِّياسيين.
لم يكن القرارُ بحلُّ الجيشِ العِراقي بريئاً، إنما كان بغرضِ نَشرُ الفَوضى، وزرعِ النَّعراتِ الفئويَّةِ إتنيَّةٍ ومذهبيَّة، وتَظَهَّرَ فجأةً إلى العلنِ تَنظيمٌ عرفَ باسم «داعش» كمصطلحٍ لتَعبيرِ «الدولة الإسلاميَّةِ في العراق والشّام» وُفِّرَت له كُلَّ الظُّروفِ للإنتِشارِ على امتدادِ العراقِ وسوريا التي اندلعت فيها ثورةٌ شعبيَّةٌ ضدَّ النِّظامِ القائمِ فيها، وأتيحَ له بليلةٍ ليلاء الحصولَ إلى كَمٍّ كبيرٍ من الأسلِحَةِ والعَرباتِ المُدرَّعةِ والآليَّاتِ المَدنِيَّةِ الجديدة، وكمٍّ هائلٍ من الأموال حَصلَ على بعضِها سِرَّاً عبرَ ممولين مجهولين، وعلى بعضِها الآخرُ بالسَّطوِ على أحدِ فروع البنك المركزي العراقي وبنوكٍ تِجاريَّةٍ خاصَّة. ما مكَّنَ هذا التَّنظيمُ، وبأوقاتٍ قياسيَّةٍ، من اجتياحِ مساحاتٍ شاسِعةٍ من العراق والسَّيطرَةِ على مناطِقَ أخرى في سوريا.
إن أخطَرَ ما في هذا التَّنظيمِ مرجعيَّتُهُ المُجهَّلةُ، وأغراضُهُ المشبوهةُ، وأساليبُه الإرهابيَّةُ الفظيعة. واستِغلالُهُ كشمَّاعَةٍ إرهابيَّةٍ لتسهيلِ تدمير المناطِقِ في كُلٍّ من العِراقِ وسوريا وتَقسيمِها وفرزِ سُكانها إثنيَّاً وطائفياً ومذهبيَّا، وهذا ما يُترجِمُ ما حصلَ مع الأشوريينَ والأيزيديين في العراقِ وبعضِ أتباعِ الطَّوائِفِ المَسيحِيَّةِ في سوريا، كما استُغلَّ لإحداثِ تغيُّراتٍ ديمغرافيَّةٍ للسُّكانِ بتَهجيرِ بعضِ الفئاتِ داخليَّاً وخارجِيَّاً، تمهيداً لإقامةِ دويلاتٍ عرقيَّةٍ وأخرى مذهبيَّة، على ضوءِ الأكثريَّة السُّكانيَّةِ في كُلِّ منطقةٍ جغرافيَّة، وعليه فُرِزَ سكَّانُ العراقِ على ثلاث مناطقَ شيعيَّةٍ في الجنوب، وسُنيَّةٍ في الوسطِ، وكرديَّةِ في الشَّمال، أما سوريا فبدت معالمُ الفرز فيها تُوحي بإقامَةِ دويلةٍ درزِيَّةٍ في جبلِ الدُّروزِ وأخرى علويَّةٌ في شمالها الغربي أي اللاذقيَّةِ وجِوارِها مع بعضِ القرى، والباقي مِنطقةٌ للسُّنَّةِ في شرق وشمال شرق سوريا أي ديرِ الزُّورِ وأدلب وحوران وتدمر وحلب. أما أكرادُ سوريا فبدى وكأن هناك مساعٍ لضمِّ مناطِقِهم كالقامشلي وغيرِها إلى كردستان العراق.
يُستشفُّ من كل ما تقدَّم أن ثمَّةَ مُحاولاتٍ جادَّةٌ لإقامةِ دويلاتٍ ضَعيفَةٍ بمُقوماتِها مُتناحِرَةٍ في ما بينها، وإن تطلَّبَ الأمرُ العبثَ في الجغرافيا السياسيَّةِ لبلادِ الشَّامِ بأسرِها، وتهجيرِ بعضهم للخارجِ، وهذا ما يُفسِّرُ التَّهجيرَ المُمنهَجِ لأعدادٍ كبيرةٍ من سُنَّةِ العراقِ وسوريا للخارجِ ورفضِ إعادتهم إلى ديارِهم بذريعةِ حقوق اللاجئين، ويُضافُ إلى ذلكَ إعرابُ بعضِ الدُّولِ الأوروبيَّةِ عن جهوزيَّتِها لايواءِ الآشوريين لديها بدلاً من مُساعدتِهم على التَّشبثِ بأرضِهم.
الربيع العربي لم تَنكشِف معالِمُهُ مما كان يَحصلُ في بلادِ الشَّام حصراً، إنما أعلِنَ عنه جَهارةً مع انطلاقِ ثورةِ تونس الخَضراء، والتي تفجَّرت شراراتُها الأولى بإقدام محمد بو عزيزي على إحراقِ نفسِه، والتي أدَّت إلى فرار الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، وإمساكِ جماعاتٍ ذاتِ توجُّهاتٍ إسلامِيَّةٍ بزمامَ السُّلطةِ في البلاد؛ ولم تقتصرُ الثَّوراتُ الشَّعبيَّةُ على تونس إنما طاولَت كلاً من ليبِيا ومِصرَ والسُّودان، حيثُ أطيحَ بنِظامي القذَّافي وحسني مُبارك. ولكنَ الثوراتَ في الدولِ الثلاثِ لم يكتب لها النَّجاحُ إذ لم يزل ثوارُ ليبيا يتقاتلون في ما بينهم، ويبدو أنهم مُساقون إلى تقسيم بلدِهِم إلى دولتين: الأولى مركزها طرابلس الغرب، وأخرى مركزها بنغازي، أما مصرُ فأريد لها أن تُفَكُّكَ على أساس طائفي ما بين دولةٍ مسلمةٍ وأخرى قُبطيَّة، وهذا ما هُيِّئ له بإيصالِ الإخوان المُسلمين إلى السُّلطةِ فيها، ولكن المُحاولةَ أحبِطت بإقصاءِ الأخوان عن السُّلطَة عنوة؛ أما في السُّودانِ فالوَضعُ ليسَ بأفضلِ إذ الثَّورةُ الشَّعبيَّةُ ما تزالُ قائمةً، حيث لم يكتَف بسلخِ جنوبِه عنه، ولا بعزلِ البشيرِ، إنما المُحاولاتٌ مُستمرَّةٌ لدفعِ بعضِ ولاياتِه للمُطالبَةِ بالإستقلال وخيرُ مثالِ على ذلك ما يَحصَلُ في دارفور.
أسفرَ مخاضُ الربيع العربي عن نهبِ الثَّرواتِ العربيَّة من المحيط إلى الخليج، كما أدَّ إلى شرذَمَةِ الدُّولِ العَربيَّة وتهميشِ دور الجامعةِ العربيَّة كمنظَّمةٍ إقليميَّة، والقضاءِ على جَميعِ الأنظِمَةِ التي تَجرَّأت على مُناصَرَةِ القَضِيَّةِ الفِلسطِينِيَّة، وقتلِ قادَتِها بدءاً بصدَّام حُسين مُروراً بمُعمَّرِ القَذافي وصولاً إلى علي عبد الله صالح، وقُضِيَ على المُقدِّراتِ العَسكريَّةِ والجيوسياسيَّةِ لأيَّةِ دولةِ عربيَّةٍ قادِرَةٍ على الوقوفِ مُستقبلاً في وَجهِ الكِيانِ الإسرائيلي، واستُعملت الأسلِحَةُ التي كان من المُفترضِ استِعمالُها للدِّفاعِ عن الحقوقِ العربيَّةِ المُغتصبةِ في وجهِ الشُّعوبِ التي استَدانَت وجاعَت وعانت الأمرّين لشرائها تحت عنوان تحقيق التَّوازُن الاستراتيجي مع العدو، وأُتيحَ لإيرانَ أن تلعَبَ دوراً إقليميَّاً وازِناً بعدَ نجاحِها في تَصديرِ ثورَتِها إلى كُلٍّ من العِراقِ ولبنان وسوريا واليمن.