“قمة” الجزائر… المنخفض العربي! | بقلم أحمد بهجة
لعلّ أهمّ ما في القمة العربية الأخيرة أنها عُقدت في الجزائر، لما لهذه الدولة من رمزية مهمة في التاريخ العربي، كونها الدولة التي لم يبخل أبناؤها في بذل كلّ ما يمكن من تضحيات فداء لوطنهم واستقلالهم وتحرّرهم من الاحتلال والاستعمار، حتى وصل عدد شهداء الثورة الجزائرية إلى مليون ونصف المليون شهيد قدّموا أرواحهم العزيزة ودماءهم الحارّة على مذبح الوطن.
غير ذلك ليس في تلك القمة ما يسمح بوصفها أنها قمة عربية، بل جُلّ ما فيها يجعلها أشبه بـ “منخفض” عربي، وذلك لأسباب عديدة ليس أقلّها غياب سورية عنها، حيث لا يصحّ القول إنها قمة عربية إذا غابت عنها سورية؟
ثم انّ القمم العربية منذ زمن بعيد يُقال إنّ هدفها “لمّ الشمل العربي”.
لم ينجح الأمر من قبل والأرجح أنه لن ينجح اليوم وسيبقى شمل العرب مشتتاً ومتفرّقاً طالما أنّ الشغل الشاغل للحكام هو في كيفية تحقيق مصالحهم الخاصة وبقائهم على العروش والكراسي وتأمين استمرارية ذريّتهم من بعدهم، من دون أيّ حساب للشعوب ومصالحها ومستقبل أجيالها الطالعة. وسيستمرّ العرب يعيشون في التناقضات سواء داخل الدول نفسها أو في ما بين هذه الدول، إلى درجة أنّ تعداد المشاكل الداخلية والنزاعات الخارجية يبدأ ولا ينتهي من كثرة الأزمات التي تتراكم وتصبح معقدة أكثر فأكثر ولا تجد لها حلاً على مرّ السنوات والاجتماعات والقمم.
والغريب العجيب أن تُسمّى القمة “قمة فلسطين”، فيما عدد غير قليل من الدول العربية غارق حتى الأذنين في التطبيع مع العدو “الإسرائيلي”. هؤلاء وضعوا فلسطين جانباً وذهبوا إلى حيث يعتقدون أنهم سيحققون مصالحهم الضيقة، لكنهم لن يتأخروا حتى يكتشفوا أنهم خدعوا أنفسهم وشعوبهم، لأنّ هذا العدو لا يمكن أن يكون معه سلام وعلاقات طبيعية، لأنه كيان غير طبيعي ولا نشكّ للحظة واحدة أنه سيزول من الوجود عاجلاً أم آجلاً.
كيف يمكن لمَن اعترف بدولة العدو وأقام معها علاقات دبلوماسية أن يستمرّ بالحديث عن تحرير فلسطين؟ وكيف لقمة تُعقد بعد انقطاع دام ثلاث سنوات بسبب جائحة كورونا، وسُمّيَت على اسم فلسطين، أن لا يرد في بيانها الختامي أيّ ذكر للاعتراف والتطبيع وإقامة العلاقات الدبلوماسية مع دولة العدو خلال هذه السنوات الماضية التي غابت فيها اجتماعات القمة؟
بعد قمة الخرطوم عام 1967 ولاءاتها الثلاث الشهيرة التي باتت من التاريخ (لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض)، بعد تلك القمة تتكرّر البيانات الإنشائية للقمم العربية هي نفسها تقريباً، وليس فيها من الحقيقة أيّ شيء يُذكر. إذ كيف يمكن أن يكون أيّ بيان حقيقياً إذا تضمّن مثلاً:
ـ فقرة عن فلسطين ودعم قضيتها وشعبها حتى يستعيد أرضه وحقوقه وعودة لاجئيه، بينما التطبيع “شغال” ومعه الاعتراف بدولة العدو وإقامة العلاقات الدبلوماسية معها، وما يرافق هذه العلاقات من تبادل اقتصادي وتجاري وسياحي وغير ذلك…!
ـ وفقرة ثانية عن السعي الحثيث للمّ الشمل العربي فيما العرب يزدادون فرقة وتشرذماً وتباعداً!
ـ وفقرة ثالثة عن النهوض بالمجتمعات العربية واقتصاداتها، فيما الفقر يضرب في أربع جهات العالم العربي الذي يحتاج إلى التنمية على كلّ المستويات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والبيئية…
ـ وفقرة رابعة عن التمسك بمبادرة السلام العربية التي أقرّتها قمة بيروت، وهي مبادرة كانت في أساسها مُتخلية عن حقّ اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم، ولكن صلابة الرئيس المقاوم العماد إميل لحود جعلت هذا الحق في صلب المبادرة. غير أنّ العدو لم يأخذ بتلك المبادرة على محمل الجدّ، وقال رئيس وزراء العدو يومها أرييل شارون إنها “لا تساوي قيمة الحبر الذي كُتبت به”. لماذا؟ لأنّ العرب طرحوا مبادرتهم مجرّدة من أيّ قوة تدعمها! وهل ننتظر أن يُسلّم عدو ماكر مثل العدو الصهيوني بحقوقنا إذا لم يشعر أننا قادرون على أخذ هذه الحقوق بالقوة، تماماً كما حصل أخيراً في موضوع الترسيم البحري، إذ لولا مُسيّرات المقاومة وصواريخها الجاهزة لما رضخ “الإسرائيلي” وسلّم بكلّ ما طلبته الدولة اللبنانية، وكنا لا نزال في المتاهة التي علقنا فيها لأكثر من 15 سنة بين خط السنيورة (رقم واحد) وخط هوف الذي لا يعطينا إلا نصف حقوقنا تقريباً!
وهناك طبعاً فقرات تتناول معظم القضايا العربية، ولكن لا يتخطى الأمر حدود الكلام الإنشائي، حتى أنّ بعض الفقرات منسوخة من بيانات سابقة ومكرّرة كما هي حرفياً…!
ولم ينسَ المؤتمرون في الجزائر المرور في بيانهم على أهمية التنمية في العالم العربي، وأيضاً هنا لا يتجاوز الأمر حدود الكلام، لأنّ تلك التنمية تطال فقط ثروات معظم الملوك والأمراء والرؤساء العرب الذين تنمو ثرواتهم وتتصاعد بأرقام فلكية وتتكدّس في خزائنهم وحساباتهم مع عائلاتهم وحاشيتهم الغارقين في الترف والغنى والفحشاء، على حساب الشعوب التي تزداد مآسيها وينمو فقرها ويتكاثر عوَزها، ولا تجد حلولاً لأزماتها المتراكمة منذ عقود، بالتزامن مع تراكم وتكرار بيانات القمم العربية، أو بتعبير أدقّ “المنخفضات” العربية المتعاقبة.