د.بيار الخوري يكتب لأسواق العرب والملف الاستراتيجي: القِمَمُ الثلاث في الرياض: مئةُ عامٍ من الاضطراب
ليس حدثًا عابرًا ما يَحصَلُ هذه الأيام على أرضِ المملكة العربية السعودية مع القِمَمِ الثلات العربية-الصينية التي تُعقَدُ في الرياض. ليس عابرًا إلى درجةٍ وَصَفَ معها الرئيس الصيني، شي جين بينغ، الظروف المُحيطة بالزيارة بأنها ظروفٌ غير مسبوقة منذ مئة عام.
وعِلمًا أن العلاقات العربية-الصينية تَمتَدُّ إلى ما يقرب الألفيتين، فإن حجمَ ما تذهبُ إليه المُحادثات والاستقبال للرئيس الصيني على أرض الرياض يرتبطان كثيرًا بتكثيفات ما بعد حربَين عالميتين وحربٍ باردة مَتبوعة بسيطرةِ القطب الواحد التي وضعها النزاع الغربي-الصيني والحرب في أوكرانيا والأزمة الاقتصادية العالمية المتمادية تحت سؤال اختبار انكسارٍ يكبرُ كل يوم.
قبل مئة عام بالضبط كان الاتحاد السوفياتي الوليد يُنهي حربه بين الجيوش الاوروبية البيضاء والجيش الأحمر الشيوعي، ويَشرَعُ بنزاعٍ طويل مع الغرب أدّى بعد أن حطّت الحربُ رحالها في الحرب العالمية الثانية إلى تقاسمٍ جديدٍ للعالم، والى تلك الحرب القاتلة التي عُرِفَت بالباردة.
سُخِّرَت إمكانات الشعوب في تلك الفترة ،وبالأخص شعوب دول العالم الثالث والدول العربية، لخدمةِ تلك الحرب التي لا مكانَ للوسطية فيها. تم تدمير البنى الاقتصادية باسم الاشتراكيات الوطنية والتي أدّت إلى نماذج هجينة من رأسمالية الدولة وتعطّل الحافز الاقتصادي، مقابل استتباع كامل للدول التي اندرجت في محور الغرب في تلك الحرب نحو مصالح الغرب وأولويتها على المصالح الوطنية وإعادة تدوير الثروات الوطنية إلى بنوك الغرب في مقابل نماذج استهلاكية غير مُستدامة.
اضطرّت الدول العربية لتزويج أُطُرِ الحرب الباردة مع حروبها وديبلوماسيتها الخاصة الناشئة عن حجم نكبة فلسطين وتداعياتها والاندراج في الصراع الدولي من موقع التابع وكلٌّ حسب مقاربته التي تراوحت بين تحرير فلسطين والحلّ السلمي.
في المئة عام أيضًا سقط الاتحاد السوفياتي وسقطت الحرب الباردة لتتحوَّل إلى حربٍ دفاعية قادتها تقريبًا كل دول العالم غير المُتحَضِّر وغير الصناعي في مواجهة السيد الجديد الذي أبرز بوضوح أنَّ الحلمَ الأميركي له جوهران، أوّلًا إنه حلمٌ للولايات المتحدة وحدها، ووعدٌ لا يمكن صرفه عند الشعوب الأخرى من الشعب الروسي الذي تجلَّدَ لأيامٍ في البرد للحصول على أول شطيرة “ماكدونالدز”، إلى الشعوب الحليفة التي افترضت أنَّ نهايةَ الحربِ الباردة سوف تعني بداية لمشروعها الخاص، وفي الحالتين لم يكن ذلك صحيحًا.
لم يكن سقوط الاتحاد السوفياتي مُمكنًا لولا الإسلام السياسي والدور الذي لعبته المملكة العربية السعودية في الخاصرة الأفغانية، ولم يكن سقوطُ صدام حسين ولا عزلُ طهران مُمكنَين لولا ذلك الدور أيضًا. ادوارٌ حاسمة لم تستطع المملكة ولا باقي دول الخليج ولا حتى مصر “تقريشها مع الأميركيين” كما كل حلفاء “الحلم والوعد” الأميركيين.
في المئة عام أيضًا صعد قطبٌ جديدٌ بين الأمم اتّكَأ على تاريخ وحضارة يضربان جذورهما عميقًا في الصبر والعمل والنظرة البعيدة. نما المارد الصيني بهدوء من دون ضجيجٍ كثير، وبمقاربة لدولة يحكمها فكرٌ ماركسي مثيل ذلك الذي حكم الاتحاد السوفياتي، لكنه اختار العلاقات الاقتصادية بديلًا من العلاقات العسكرية سبيلًا لبناء طريقه إلى العالم، والذي تطوّرَ في ما بعد إلى أكبر مبادرة اقتصادية عالمية تُعرَفُ اليوم بالحزام والطريق.
لا تنظرُ شعوب العالم وحكوماتها، باستثناء ربّما الولايات المتحدة على الرغم من عمق العلاقات الاقتصادية بين واشنطن وبكين، إلى الصين بصفتها الماركسية او العدوّة، بل بصفتها دولة تستطيع أن تُمثِّلَ نموذجًا تنمويًّا تحتاج إليه ثلاثة أرباع المعمورة وأكثر من 80% من شعوبها، وهذا الأمر ليس مصادفة بل نتيجة مقاربة حضارية صينية في النظر الى الاشتراكية ذات الخصائص الصينية والتي لا يمكن تعميمها بالعنف من ناحية، واعتبار ان بناء المستقبل المشترك للبشرية في ظل عظيم الاخطار التي تحيق بهذا المستقبل يمتلك الاولوية على فحص الدم السياسي.
المملكة العربية السعودية تحرّرت من الحرب الباردة حيث أدَّت قسطها للعُلى ولا ترغب ان تكون جُزءًا من الحرب الاقتصادية التي قد تتطوّر إلى أنواعٍ مختلفة من الحروب التي قد تجرُّ الولايات المتحدة العالم لها. وذلك يشكّلُ معنى عميقًا من معاني النضوج العربي ووعي دول الخليج لمصالحها الخاصة التي ضحّت بها كثيرًا على مذبح السعي في سبيل وهم الحلّ العادل لقضية فلسطين، ووهم الشراكة العادلة مع الغرب.