بين السياسة والرياضة… انتصرت المشاعر القومية | بقلم مسعود أحمد بيت سعيد
تتابع الجماهير العربية بشغف مونديال كأس العالم المقام في قطر، هذا الجزء العزيز من الوطن العربي الكبير، وعينها على منتخباتها المشاركة، التي تخوض معركتها الرياضية في ظروف تاريخية صعبة، وحالة نفسية مركبة ومتوترة وغير مستقرة، رغم مظاهر الفرح التي تحاول أن تخفي قلقا تفضحه قسمات الوجوه. لقد شعرت بثقل المسؤولية وحملت أمانة تعويض الهزائم السياسية والعسكرية والثقافية المتراكمة؛ وقدمت ما استطاعت تقديمة، ومنها من ودع ومنها من ينتظر؛ ولا تثريب عليها فالأمة العربية تنام وتصحو على الهزائم في هذا الزمن الرديء، ويتقاسمها السباع كما تتقاسم الفريسة؛ قد يقال إن الربط بين السياسي والرياضي غير جائز.. ربما؛ ويقال كذلك لماذا جلد الذات بهذه القسوة؛ بينما هناك إنجازان، لا تُخطئهما البصيرة، الإنجاز الأول: احتضان هذه الفعالية الرياضية العالمية على الأرض العربية. والإنجاز الثاني: انتصار المشاعر القومية الوحدوية على مشاعر التجزئة، حيث برز التلاحم الشعبي في أروع صوره، وأكثرها صفاء.
نعم لقد تسمرت الجماهير العربية من الخليج إلى المحيط خلف الشاشات تؤازر المنتخبات العربية المشاركة، وقلوبها تتقطع ودموعها تتساقط فرحا؛ وتدوي الساحات بالتصفيق والهتاف مع اختراق مرمى الخصم ومن الذي لم تدمع عيناه عندما يشاهد شباكه تهتز؛ وتسمو العاطفة الجياشة في أسمى وأنبل معانيها إلى عنان السماء؛ تلك المشاعر هي نفسها التي تتدفق وتتفاعل مع قضايا الأمة كلها بدءا من نكبة 48 وقرار التقسيم الظالم، وتأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي، ونهوض حركة التحرر الوطني في عديد الأقطار العربية، والثورة الجزائرية واليمنية، وانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، وانتصار أكتوبر/تشرين الأول المجيد، واجتياز قناة السويس وخط بارليف والبطولات على جبهات القتال المختلفة، والصمود الأسطوري في بيروت والانتفاضات الفلسطينية الأولى والثانية، وإلى نصر يوليو/تموز التاريخي.
ويتصاعد هذا الشعور القومي ليشمل كل بقعة من أرض العروبة التي تواجه مشاريع الهيمنة الإمبريالية والصهيونية، هذه الأحاسيس النبيلة والصادقة هي ترجمة طبيعية لعمق المفهوم القومي الذي يراد حبسه في الصدور، وخلف الحدود التي صنعها الاستعمار لتسهيل مهماته في السيطرة على الوطن والإنسان.. ورغم كل الذي جرى ويجري وما يحز في النفس من ألم، تخطت الجماهير العربية قادتها ونظرتهم السياسية القاصرة وأثبتت أصالتها ومقدرتها على تجاوز كل الخلافات والمعوقات التي وضعت بفعل فاعل أمام طريق وحدتها وتقدمها الاجتماعي، إلى ما هو أبعد وأعمق.. ولم تقف طبيعة النظم السياسية وسياساتها حائلا دون مؤازرة الفرق العربية، ولم تتخندق الجماهير كما تتخندق الأنظمة خلف الخلافات المفتعلة.. لقد أطلقت العنان لأحلامها في التعبير عن قناعاتها الراسخة بوحدة المصير المشترك. وأبعد من ذلك أظهرت وعيا قوميا واضحا عندما رفضت إجراء مقابلات مع المراسلين الإسرائيليين، وهو موقف يحمل في مضمونه رفضا شعبيا قاطعا لمشروع التطبيع، الذي يجري بشكل متواصل، مع الكيان الصهيوني وتعلم الشعوب العربية يقينا أن السلام الحقيقي هو في دحر الهجمة الإمبريالية والصهيونية، واستعادة كامل التراب العربي.
إن موقف الجماهير العربية هو نقيض بعض المواقف الرسمية. ويبقى السؤال الى متى ستبقى الجماهير العربية التي تختزن هذا الشعور القومي المؤمن بوحدتها والرافض للتطبيع، خاضعة لأنظمة لا تعبر عن إرادتها وتفرض عليها خيار الاستسلام المذل؟ متى ستتحول هذه المشاعر القومية إلى برامج عملية تنقلها من الوجدان إلى حيز الواقع الفعلي؟ ولم تكن هذه المشاعر مجرد فورة عاطفية، بل هي تعبير عن قناعة راسخة ستأخذ طريقها حتما في الترجمة السياسية والعملية مع مرور الأيام، بحيث تعكس نفسها في مواقف وطنية وقومية جادة تجاه قضاياها العادلة، وحقها في التحرر والتقدم والوحدة.. لا نقول هذا استجابة لعاطفة انفعالية، وإن كانت العواطف الانفعالية هي الأكثر صدقا، حيث تفسح للمكنونات الدفينة التعبير عن ذاتها دون الخضوع لشروط الواقع القاسي.. إن القناعة المشتركة تتعزز مع مرور الدقائق، وستدرك الجماهير العربية أن الوحدة ليست خيارا ضمن خيارات أخرى فقط، بل هي الخيار الوحيد الذي لا خيار غيره؛ إذ لا مستقبل للأمة العربية خارج المشروع القومي الوحدوي التقدمي، وتلك مهمة الجماهير العربية وطبقاتها الشعبية الكادحة، وليس مهمة نظام سايكس بيكو، الذي يريد تحويل واقع التقسيم إلى شيء مقدس لا يمكن المساس به.