مَن يرفض الحوار لا يعرف لبنان…!| بقلم أحمد بهجة
كيف يمكن في لبنان أن يرفض أحد ما الحوار؟ هذا البلد المركّب من “موزاييك” غريب عجيب والذي لم تُحَلّ فيه أيّ مشكلة إلا بالحوار، وحين كان يغيب الحوار الداخلي كان يجد الخارج ملعبه الواسع للتدخل والخربطة وصولاً إلى الدفع باتجاه إشعال الحرب الأهلية، التي لا تنتهي إلا بالحوار…
لم يصل اللبنانيون بشكل كامل بعد إلى مستوى فكرة المواطنة، حيث يمكن لهم أن يعيشوا مع بعضهم البعض كمواطنين لهم الحقوق نفسها وعليهم الواجبات نفسها، وهذا بحدّ ذاته يحتاج إلى حوار في ما بينهم جميعاً، يستحضرون خلاله كلّ التجارب التي مرّ بها لبنان في كلّ مراحله، حتى منذ ما قبل تشكيله ككيان ودولة في العام 1920. للاستفادة من عِبَرها ودروسِها التي كانت صعبة وقاسية على الجميع.
وإذا كان غير ممكن هنا استعادة كلّ تلك المراحل، فإنّ ما يمكن قوله باختصار إنّ هذا الحضيض الذي نعيش فيه هذه الأيام هو نتيجة السياسات والأخطاء المتراكمة خلال السنوات الثلاثين الأخيرة، ولكن لا شكّ أيضاً أنّ الأمر له جذور عميقة، لأنّ هناك شيئاً ما خاطئاً في أساس بنيان هذا الكيان.
قد يقول البعض إنّ لبنان شهد في مراحل سابقة بعض فترات الازدهار، هذا صحيح، لكن لا شكّ أنّ قراءة متأنية لتلك الفترات تؤكد أنّ الازدهار المذكور كان منقوصاً ومشوّهاً إلى حدّ كبير، إذ انه تركز في مناطق محدّدة خاصة في العاصمة ومحيطها وفي بعض المدن الكبرى، بينما أهملت الأطراف بشكل كبير، ومن هنا أتت مقولة الإنماء المتوازن التي جرى التداول بها لعقود من الزمن إلى أن تمّ تكريسها كبند أساسي من بنود وثيقة الوفاق الوطني في الطائف، ولاحقاً في الدستور.
لو لم يكن هذا الخلل موجوداً ومؤثراً لما كانت هناك حاجة للتأكيد على الإنماء المتوازن في الدستور، خاصة أنّ غياب هذا الإنماء المتوازن جعل أبناء الأرياف يهجرونها إلى المدن وإلى مراكز النشاط الاقتصادي، ومنهم إلى الخارج، ما أدّى إلى تراجع الزراعة والصناعات المحلية المرتبطة بها، خاصة الصناعات الغذائية والحِرفية، إضافة إلى تراجع الثروة الحيوانية باعتبار أنّ الهجرة الداخلية أو الخارجية تؤثر سلباً على هذا الأمر لأنّ المهاجر بطبيعة الحال لا يعود بإمكانه تربية الدواجن والمواشي التي كان يهتمّ بها في قريته وفي منطقته النائية.
لطالما حذّر الخبراء والعارفون من نتائج هذا الأمر، وها نحن اليوم نواجه النتائج السلبية جداً، ليس فقط على الصعيد الاقتصادي، بل على كلّ المستويات ومنها بشكل أساسي على الصعيد السياسي، حيث يعيش اللبنانيون جميعاً وليس فئة معينة منهم التعقيدات والصعوبات الناتجة عن الحصار المفروض علينا، من الغذاء والدواء والاستشفاء والكهرباء والاتصالات… وقبل كلّ ذلك السطو على أموال المودعين من قبل عصابة مصرفية ومالية وسياسية وإعلامية تتلطى أحياناً ببعض رجال الدين، وعلى رأسها شخص مرتكب مطلوب للمحاكمة في لبنان وفي أوروبا مع عدد من أفراد عائلته وحاشيته التي يبدو أنّ أغلبها من النساء اللواتي تتردّد أسماؤهنّ باستمرار في وسائل الإعلام المختلفة.
لذلك لا يمكن لجدول أعمال الحوار الوطني أن يقتصر فقط على الأمور السياسية، على أهمية التوصّل إلى تفاهمات سياسية تعيد وضع القطار اللبناني على السكة، حتى لو لم يتوصّل الحوار إلى حلول نهائية يمكن مواصلة البحث فيها بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة، بمعنى أنّ علينا أولاً أن نعيد الانتظام العام إلى مؤسسات الدولة وبعد ذلك نتابع الحوار حول القضايا والملفات الهامة الأخرى، وأوّلها الاتفاق على قانون انتخابات نيابية جديد يؤسّس للبنان الجديد القائم على فكرة المواطنة والمساواة بين جميع المواطنين دون استثناء ولا تمييز.
أيضاً هناك الملف الاقتصادي الذي يجب أن يوضع في أولويات الحوار الوطني، وهو ملفّ متشعّب ومعقد بعض الشيء، لكن في البداية على المتحاورين أن يحدّدوا ماذا يريدون وما هو الدور الاستراتيجي الذي يمكن للبنان أن يؤدّيه مستقبلاً على المستوى الاقتصادي وبشكل يريح الناس ولا يبقيهم بشكل دائم أسرى سياسات موسمية تكون خاطئة بغالبيتها ويدفع ثمنها مجموع المواطنين باستثناء قلة قليلة تنتهز الفرص والأزمات حتى تكدّس الأموال في خزائنها وتنجو بأفعالها المشينة مراهنة على أن لا أحد يسأل أو يحاسب في ظلّ هذا الانشطار العمودي في البلد على أكثر من مستوى سياسي وطائفي ومذهبي.
على أنّ النقاش في الملف الاقتصادي يجب أن يأخذ في الاعتبار موضوع النفط والغاز الذي يمكن أن يشكل عامل إنقاذ للبنان ولأجياله الطالعة إذا تمّ التعاطي معه بجدية وبمسؤولية وطنية عالية، لأنّ إدخال هذا الملف أيضاً في زواريب الطوائف والمذاهب والمحسوبيات التي تعوّدنا عليها في السابق قد تؤدّي إلى نتائج عكسية، وقد يطيل عمر منظومة الفساد التي نهبت مئات مليارات الدولارات على مدار العقود الماضية، بينما المطلوب هو اجتثاث هذه المنظومة من الجذور، والحفاظ على الإنجاز الوطني الكبير الذي تحقق في موضوع الترسيم البحري من خلال تكامل الأدوار بين الدولة والمقاومة… وهناط إنجازات كثيرة وكبيرة جداً يمكن أن تتحقق مستقبلاً من خلال هذا التكامل…