هذه صَرْخة ليست في العراق أو أفغانستان أو أيِّ بلد آخَر كان ضحية الإحتلال الأميركي، بل هي صرخةٌ على أرض بلدٍ حليف لأميركا، يُحارِبُ معها، ويجمعه بها حِلف قوي وهو حلف الناتو، إنها في قلب ألمانيا يا سادة.
فقد نُظمت فيها مظاهرة تحت عنوان: «دعوة للرحيل» يهتف فيها المتظاهرون برحيل الإحتلال الأميركي عن ألمانيا، فقد أُطْلِقت دعوات تُطالِب بجلاء القوات الأميركية المتواجدة في بلاد الألمان إضافةً إلى جلاء القواعد العسكرية الأميركية.
وقد تَجمع عددٌ من المتظاهرين أمام القُنصلية الأميركية في مدينة (لايبزيغ) مطالبين بذلك، وقالت وسائل الإعلام الألمانية من باب التبرير: إنهم مجموعةٌ من اليمين المتطرف التابعين لحزب سكسونيا الحرة. في حين قال المتظاهرون: إنهم مواطنون ألمان مَلُّوا سياسة أميركا العنصرية إتجاه بلادهم، كما سَئِموا تلك اللعبة التي لعبتها واشنطن وهي جَرُّ بلادهم إلى حروبٍ لا طائل من ورائها، وقادتها رغمًا عنها إلى مواجهاتٍ مع مَن لا يعتبرهم الألمان أعداءً لهم .
وهناك أيضًا مظاهرة التحقت بمظاهرات سابقة خَرَجت في ذات البلد، وجميعُها تطالب بذات المطلب الرئيس، أَلَا وهو: لا لأميركا، ونَعَم لعلاقات وُدِّية مع روسيا .
فبحسب الألمان المحتجين على سياسة حكومتهم التابعة لواشنطن، فإن الأزمات هي مَن تكشف الأصدقاء المخلصين من أولئك الزائفين المستغلين.
فالروس قبل الحرب بينهم وبين أوكرانيا كانوا يبيعون لهم الغاز بأسعار زهيدة مقارنةً عما قبلُ، في حين أنَّ أميركا إستغلت تلك الأزمة وزادت في أسعار مصادر الطاقة، ما سيجعلهم يواجهون بردًا قارسًا هذا الموسم .
وليس هذا فقط، فإن السياسة الأميركية مؤخرًا جعلت ألمانيا وأوروبا قاطبةً في مواجهة الغضب الروسي الذي حَرَمهم من الطاقة وحرمهم من الشعور بالأمان والإستقرار، فبمجرد أن إندلعت الحرب الروسية الأوكرانية ضغطت أميركا على حلفائِها الأوروبيين لمواجهة الروس، وفَرَضت عليهم عقوباتٍ، ما إستوجب الرد الروسي وغضب موسكو، وما تسعى إليه واشنطن الآن هو دفع الأوروبيين إلى مواجهة الصين التي تُعاديها أميركا كما تعادي روسيا.
إنها حروب مجانية تقود واشنطن العالَمَ الغربيَّ إليها بحسب ما يرى الألمان الغاضبون، بينما نرى في روسيا أن الأفراح عَمَّت جدران الكرملين الذي طالما حذَّر الأوروبيين من الإنجرار خلف أميركا، مُنِّبهًا حُكوماتِ أوروبا أن الشعوب الأوروبية لن تقبل أن تدفع فاتورة الحروب الأميركية، ولعل هذه الحكومات الأوروبية تدرك هذا الأمر، وتحديدًا ألمانيا التي سافر مُستشارها مؤخرًا ليحطَّ رحاله في بكين.
وهذه الزيارة ما هي إلا رسالة أراد منها المُستشار الألماني طمأنة الداخل قبل الخارج، وليعلن من خلالها أن ألمانيا مستقلة ولها قراراتها السيادية، وأنها ليست في حرب ضد أحد، أو مع أحد، بإستثناء روسيا التي بات من الصعوبة بمكان ما التراجع عن مواجهتها، أو هكذا على الأقل ما يسعى الأميركيون إلى تصويره، وهكذا أيضًا ما صَدَّقه الأوروبيون قبل خروج الأخبار الأكيدة التي تصب في صالح حقيقةٍ واحدةٍ مَفادها: أن واشنطن وموسكو لن تتوقفا لحظةٍ عن التنسيق فيما بينهما، ولعل هذا ما إستوعبه الأوروبيون مؤخرًا، وبدؤوا بالتمرد عليه، وألمانيا ليست وحيدةً فيما تقوم به، ففي قلب إيطاليا جارتها كان الشعب الإيطالي للتو قد فرغ من إنتخابات ٍ مبكرة أفضت نتيجتُها لصعود اليمين إلى الحكم، وعلى رأسه سيدة معروفة بمعاداتها للمشروع الأميركي الذي ترى فيه مشروعًا غير متوافق مع مصالح بلادها الوطنية، ومن المتوقع أن تبحث روما تحت قيادة حُكَّام جُدد عن مخرج لها من التحالف مع واشنطن، فأميركا مؤخرًا أبدت ما يمكن تسميته بقمة الأنانية، خاصةً فيما يخص الأزمة الأوكرانية، فتراجعت عُمْلة الأوروبيين أمام الدولار، وإرتفعت الأسعار، وعانت الأسواق تضخمًا ونقصًا في السلع، وعلى رأسها الطاقة التي تتعطش لها القارة العجوز، في حين لم تدفع أميركا زعيمة هذا المعسكر نصفَ هذا الثمن.
إذًا بات من المنطقي أن تُرَى مظاهرات في أوروبا تطالب الأميركيين بالرحيل عن بلادهم، وتطالب بلادَهم بالخروج من تحت عباءة الأميركيين، وتحديدًا من حلف الناتو الذي ثَبَت أنه ليس سوى حلفٍ لتحقيق رغبات السيد الأميركي، وأثبت عجزه عن حماية الدول التي تَدَّعي أميركا أنها تحميها، وأكثر من ذلك فإن المتظاهرين أنفسهم باتوا يطالبون برفع العقوبات عن روسيا، ما يعني أن روسيا على ما يبدو قد تنتصر شعبيًّا من خلال الشعوب الأوروبية الناقمة على حكوماتها ، وهذا ما لم يكن متوقعًا، ولا في الحسبان.
فهل سنرى قريبًا نهاية الحقبة الأميركية في أوروبا مع صعود الحكام المعادين لأميركا في القارة وولادة حقبة جديدة بقيادة صينية ؟