حتى فؤَاد شهاب “هَـــجَّ” منهُم | بقلم هـنـري زغـيـب
كان ذلك في 5 آب 1970، ولبنانُ يومذاك (مثلما اليوم) في فترة الانتخابات الرئاسية. وكانت للترشيحات الرئاسية اعتبارات جادَّة (لا كاريكاتورية هزلية مَسْخَراتية مثلما هي اليوم). وكان الضغط يزداد على الرئيس الأَمير اللواء فؤَاد شهاب (1902-1973) كي يعيد تَرَشُّحه بعد انقضاء ست سنوات شارل حلو (1964-1970) كما يُتيح له الدستور (وكان الدستور يومذاك مُهَابًا من أَوليائه لا مغتَصَبًا كما اليوم من حُمَاته).
بعدما نعِمَ اللبنانيون من ازدهار لبنان الإِداري والسياسي في عهد شهاب (1958-1964)، كانوا يتمنَّون أَن يعود إِلى الحكْم الذي شرَّفه واحترم دستورَه (كان يسميه احترام “الكتاب”). وكان خصومُه “المتعيِّشون” (الـ”فْروماجيسْت” كان يسميهم، أَيْ “أَكَلَة الجبنة”) يتمنَّون عدم عودته إِلى الرئاسة كي تبقى لهم الساحة فيواصلوا (منذ تلك الفترة) نهْشَهم الحقير خيراتِ الدولة.
غير أَنه في 5 آب فاجأَ الجميع ببيان عُزوفه عن الترشُّح: “قبل اتخاذ قراري النهائي رأَيتُ من واجبي أَن أَتفحَّصَ بِرَويَّةٍ معطيات الوضع العام فأَتبيَّنَ الإِمكانات التي يُمكن أَن تَتَوَفَّرَ لي لخدمة بلدي وفقًا لمفهومي الشخصي لهذا الواجب، ولِما يتطلَّبُه هذا الوضع من أَجل مستقبل البلاد ومستقبل أَبنائها” (إِذًا كان يبحث عن مستقبل البلاد وأَبنائها لا عن مستقبله السياسي).
درس فؤَاد شهاب “الوضع العام” بتجرُّد المنضبِط بشَرَفه العسكري (أَن يكون هو في خدمة الدولة لا أَن يجعل الدولة في خدمته)، ورأَى إِلى الموضوع “من خلال نظرتي الخاصة لمعنى السلطة، وللمهامِّ التي يجب أَن تُؤَدِّيها الدولة، وللهالة التي يجب أَن تُلازمَها” (إِذًا هو يحترم السلطة ويحرص على هيبتها في عيون شعب لبنان ودُوَل العالم)، فاستنتَجَ أَنَّ “المؤَسسات السياسية اللبنانية والأُصول التقليدية المتَّبعة في العمل السياسي لم تَعُد تشكِّل أَداةً صالحة للنهوض بلبنان” (إِذًا رأَى أَنَّ “بيت بو سياسة” الفروماجيين ليسوا صالحين لورشة النهوض بالبلاد) كما لاحظ أَنَّ “مؤَسساتِنا تجاوَزَتْها الأَنظمةُ الحديثة، ونظامَنا الاقتصادي يَنْخَرُهُ سوءُ تطبيقه فيُسهِّل قيامَ الاحتكارات”، ما بدا له “لا يُفسِحُ للقيام بعمل جدِّي على الصعيد الوطني” (قال بالعمل “الجدّيّ” أَي غير المحسوباتي وغير الزبائني كما هو اليوم)، ففي عُرفه كرجل دولة تاريخي أَنَّ “الغاية من العمل الجدّي هي الوصولُ إِلى تركيز ديمقراطية برلمانية أَصيلة صحيحة ومستقرَّة، وإِلى إِلغاء الاحتكارات حتى تُتاحَ سُبُل العمل وتكافُؤُ الفُرَص للمواطنين” (إِذًا كان يشعر أَن العمل البرلماني يومها يغتصب الديمقراطية ويكرِّس الاحتكارات السياسية)، فخَلُصَ في تفكيره إِلى أَنَّ “الدراسات التي قمْتُ بها عزَّزت قناعتي بأَنَّ البلاد ليست مُهَيَّأَةً بعدُ، ولا مُعَدَّةً، لتَقَبُّل تَـحوُّلاتٍ لا يُمكنني تَصَوُّرُ اعتمادِها إِلَّا في إِطار احترام الشرعية” (إِذًا هو استشرفَ انهيارَ البلاد إِلى منزلقاتِ العشائرية والقبائلية والمحسوباتيات الزبائنية القاتلة)، فَحَزَمَ أَمرَه وأَعلَن: “استنادًا إِلى هذه المعطيات قررتُ أَلَّا أَكون مُرَشَّحًا لرئاسة الجمهورية”.
هكذا فؤَاد شهاب، باني الإِدارة اللبنانية بأَقوى عناصرها، أَغلَقَ الباب نهائيًّا على عودته إِلى الحكْم، قرفانَ من العمل مع زُمرة سياسيين فاسدين لن يتعاونوا معه لمواصلة البناء في هيكل لبنان. رآهم “فروماجيين” بوقاحة فاعتكف في بيته المتواضع (لم يكُن قَصرًا ولا فيلَّا فخمة).
وهكذا “هَـــجَّ” منهم كما حادسًا أَنهم ذاهبون بلبنان إِلى ما بَلَغَهُ اليوم من انهيار فاجع، وصَدَق حدْسه لأَن الذين كانوا فاسدين في أَيامه قبْل ثلث قرن، تناسلوا أَبناءَ وأَحفادًا حتى بلغوا بلبنان اليوم إِلى الجحيم التي رآها الأَخطل الصغير قبل ثلاثة أَرباع القرن: “هَبَطوا الجحيم فَرَدَّهُم بَوَّابُها إِذ خاف من إِبليسِهِم إِبليسُهَا”.
هي هذه مشكلتُنا الأُمُّ اليوم: يتحكَّم بلبنان أَبالسةٌ كُفَّار وقراصنةٌ أَشرار، لن ينقذَه منهم سوى رئيسِ جمهوريةٍ حُــرٍّ (من خارج طبَقة الكُفَّار والأَشرار) يفتتح إِنجازاتِه التاريخية حين يُـحاكِم “الــپــيـتانيين” اللبنانيين بتُهمة الخيانة العُظمى.
ينشر المقال بالتزامن مع “النهار العربي”