قبل ثماني سنوات (3 آذار/مارس 2014)، وفي سلسلة المحاضرات الدورية التي أُعدُّها لـ”مركز التراث للبناني” في الجامعة اللبنانية الأَميركية LAU، استضفتُ إِلى منبره ندوةً عن تاريخ القطار في لبنان منذ نشوء خطِّه الحديدي قبل 127 سنة (1895).
وقبل سنة من اليوم، كانت مجلة آرامكو Aramco World (في عددها أَيلول/تشرين الأول–سبتمبر/أُكتوبر 2021) خصَّصَت صفحاتٍ مطوَّلةً ومصوَّرةً لموضوع القطار في لبنان.
وقبلذاك كان المصور الفوتوغرافي إِدي شويري أَصدر سنة 2013 كتاب “لبنان على السكَّة” اشتراكًا مع المخرج الياس معلوف (مؤَسس جمعية “تران تران” في لبنان).
كلُّ هذا الأَعلاه لأُشير إِلى فداحة فقدان القطار في لبنان، على ما كانت له من أَهمية تاريخية ارتبَطَت عضويًّا بما كان للقطار من حكايات سأُحاول اختصارها في هذه الثلاثية.
وهنا حلقتُها الأُولى:
من درب البغال إِلى الطريق المعبَّد
باهرًا كان إِنشاءُ الخط الحديدي لقطار لبنان في آخر القرن التاسع عشر. كان يومَها إِنجازًا هندسيًّا رائدًا، وعاملًا اقتصاديًّا حيويًّا لمنطقة شرقي المتوسط، ظَلَّ يَرفدُها بالمنافع إِلى أَن حطَّت الحرب في لبنان سنة 1975، فزال الخط الحديدي بين سرقة حديده، وتعبيد مكانه زفتًا، ومحو آثاره اعتداءً عقاريًّا بأَبنية ومحالّ، حتى لم يبْقَ منه إِلَّا بعض ملامح تذكارية لا يعرف عنها سطرًا جيلٌ كاملٌ من اللبنانيين.
طيلة قرونٍ بقيَت المسافة بين بيروت ودمشق (نحو 100 كلم أَو أَقلّ) محصورةً بدروب البغال تَعبُر الجبال والوهاد في ثلاثة أَيام، وربما أَربعة إِبَّان مواسم الثلج والمطر. وكان أَنَّ الباب العالي منح الضابط البحري الكونت إِدمُون دُو پـيرتْوِي سنة 1856 التزام شق الطريق بين بيروت ودمشق، ففعل، وعبَّدها برصف الحصى وشقِّ الصخور حتى بات يمكن اجتيازُها في يوم واحد، فاحتشد عليها السير حتى الاكتظاظ.
بعد الطريق المعبد خطٌّ حديدي
مع شق الطريق المعبَّد تنامى ازدهار الحركة في مرفإِ بيروت عند آخر القرن التاسع عشر ما فرَض الإِرادة العاجلة بإِنشاء خط حديديّ بين المدينتَين، فبادر السلطان العثماني عبدالحميد الثاني (1942-1918) إلى منْح الفرنسيين امتيازَ القيام بهذا العمل، ومنْح الإِنكليز امتيازَ إنشاء خط حديدي آخَر من مرفإِ حيفا إِلى دمشق. توجَّسَ الفرنسيون من أَن يخسف الإِنكليز جهدهم فيتولَّوا خط بيروت كذلك، فتعاون المهندسون الفرنسيون مع تُجَّار لبنانيين كبار لتنفيذ الخط الحديد، وبادر مستثمرون فرنسيون إلى تمويل المشروع فبدأَ العمل به سنة 1891، وانتهى بعد أَربع سنوات فيما المشروع الإِنكليزي لم يتحقَّق… تم التدشين في 4 آب/أُغسطس 1895 فكان ذاك أَولَ خط حديدي في المشرق، سابقًا 13 سنة خطَّ الحجاز الشهير.
3 أَيام في 9 ساعات
أخذت الرحلة “البخارية” بين بيروت ودمشق تستغرق 9 ساعات فقط (بعد عذاب الأَيام الثلاثة قبلًا). واستعمل المهندسون لصعود الجبال خطَّين حديديَّين صلبين عرْض واحدهما 1000 ملم. ولتسهيل الصعود الصعب ركَّزوا وسطهما سلسلةً مسنَّنَة تساعد في شد القطار إِلى أَعلى. وتغلَّبوا على سائر الصعوبات الداهمة من محطات توقُّف وأَدوات تحويل الخط وقطَع الغيار وتدريب السائقين.
لم يطُل الأَمر حتى بات هذا الخط حيويًّا رئيسًا لتنقُّل المسافرين، ومنه إِلى سوريا والأُردن وتركيا فإِلى أُوروبا. وكان هذا الخط مسهِّلًا تحريك ثلاثة أَرباع الحركة التجارية من المتوسط إِلى الداخل اللبناني والسوري فأَبعد.
غُول الحرب اغتال القطار
ظلَّت هذه الحركة في ازدهار مُطَّرِد حتى انقصفَت سنة 1976، فتعطَّل التنقل بالقطار بين المدن اللبنانية وخارجها إِلى المنطقة والعالم. فبعد أَقلَّ من سنة واحدة على اندلاع الحرب في لبنان (نيسان/أَبريل 1975) توقَّفَت القطارات وتجمَّدَت الحركة على خطوطها. واليوم غابت السكك الحديدية، وباتت 16 محطة بلا عمل، وقضَمَ الصدأُ نحو 20 قاطرة ومقطورة مرميةً منسيَّة في أَماكن عدَّة من لبنان.
بداية الرحلة من المحطة الأُمّ
وفي سلوك نحو 87 كلم بحثًا عن الخط الحديدي، يتبيَّن أَن معظمَه امَّحى تحت الأَسفلت. فالمحطة الأم في منطقة مار مخايل (قُبالةَ مرفإِ بيروت) تبدو ضحيةَ صمتٍ عميق، بعدما زاد تدميرَها انفجارُ المرفإِ في 4 آب/أُغسطس 2020، وهو – ويا لسخرية القدر – التاريخُ ذاته الذي شهِد تدشين أَول رحلة قطار على الخط الحديدي قبل 127 سنة (4 آب/أُغسطس 1895).
اليوم لم يعُد في هذه المحطة الأُم سوى خيالات الشجر وتطاوُلِ عشْب بريٍّ عالٍ كما في الأَدغال، وجثث بعض القاطرات والمقطورات تحت رحمة الصدإِ القاتل.
من المحطة الأُم نواصل المتابعة فيَغيب الخط الحديدي بين أَبنية شاهقة حديثًا وشوارع مكتظَّة، وُصُولًا بعد نحو 5 كلم إِلى أَول تَوَقُّفٍ بعدها في محطة فرن الشباك التي ضاعت هي الأُخرى وسْط محيط سكني متزايد ممتدٍّ ضاغط. وبين بعض الأَحياء الفقيرة في تلك البقعة، استخدَم بعضُ المواطنين المساحةَ بين الخطين ليزرعوا فيها الخضُر لاستعمالهم المنزلي في أَقسى أَزمة اقتصادية لم يعرف مثلَها لبنان من القرن التاسع عشر.
ومن فرن الشباك نواصل متابعة الخط الحديدي إِلى المحطات التالية كي نتفقَّد ماذا حلَّ بها وبالخط الحديدي.
هذا ما أَكشفه في الحلقة الثانية من هذه الثلاثية.
ينشرالمقال بالتزامن مع “النهار العربي “