2022، العامُ الذي جَعَلَ كلَّ شيءٍ مُمكِنًا أكثر | بقلم غابي طبراني
عند النظر إلى سنة 2022، من الصعب ألّا نعتبرها “سنةً غيّرت كل شيء”. لقد كسر الغزو الروسي لأوكرانيا ما كان من المُحرّمات الدائمة بالنسبة إلى الحرب بين الدول، إن لم يكن بالنسبة إلى أيِّ حربٍ أو صراع. ولأن ذلك حَدَثَ في قلب أوروبا، وهي واحدة من أغنى مناطق العالم وأكثرها “استقرارًا”، فقد أدّى إلى تضخيم الصدمة التي شعر بها العالم في 24 شباط (فبراير). وبدا أن الآثارَ المُتَرَتِّبة على سيناريوهات الصراع المُحتَمَلة الأُخرى، لا سيما الغزو الصيني لتايوان، تبدو فجأة من الصعب استبعادها.
لا شكَّ أن تداعيات الحرب، لا سيما في ما يتعلق بالعقوبات الأميركية والأوروبية ضد روسيا، تُمثّلُ انتهاكًا نهائيًا لعصر التكامل الاقتصادي الذي بدأ مع نهاية الحرب الباردة. في فَصلِها للاقتصاد الروسي عن الاقتصاد الغربي، جعلت هذه العقوبات فجأةً الاستعارات من “العصر الذهبي” للعَولمة في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين –لعالمٍ بلا حدود وتأثير تحرير التكامل التجاري– تبدو ساذجة بشكلٍ صادمٍ و”يوتوبيا” بشكلٍ مُحرِج. لقد تم تعزيز هذا الانطباع من خلال تدابير الرقابة على الصادرات التي فرضتها إدارة جو بايدن في تشرين الأول (أكتوبر) للحدِّ من وصول الصين إلى “أشباه الموصلات” (Semiconductors) المُتقَدِّمة اللازمة لتطبيقات التكنولوجيا الفائقة، مثل الذكاء الاصطناعي، الذي يجادل الكثيرون بأنه سيُحدّدُ قوّة أي دولة في القرن الحادي والعشرين.
ولكن حتى داخل الغرب، كانت التجارةُ نقطةَ خلاف، لا سيما الإعانات المُضَمَّنة في قانون خفض التضخّم الأميركي المُصَمَّم لتحفيز إنتاج واعتماد تقنيات الطاقة الخضراء، مثل السيارات الكهربائية، كجُزءٍ من الانتقال والتحوّل إلى مصادر الطاقة المتجددة. وانتقد حلفاء واشنطن الأوروبيون الإجراءات ووصفوها بأنها سياسة صناعية حمائية لصالح الشركات الأميركية أو التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرًّا لها، على حساب الشركات الأوروبية.
كل هذه التطوّرات مثّلت بالتأكيد صدماتٍ دراماتيكية للنظام الدولي، سواء بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، في تأثيرها في كلِّ شيء، من أسعار الطاقة إلى إمدادات الغذاء في جميع أنحاء العالم. لكن قراء “أسواق العرب” تعرّفوا إليها وأدركوا على أنها تعبيرٌ عن الاتجاهات التي كانت تتشكّل والتي غطتها “أسواق العرب” وكتبت عنها منذ بعض الوقت.
منذ منتصف العام 2010 على الأقل، على سبيل المثال، اتسم المشهد الدولي بشكل متزايد بالمنافسة الجيوسياسية التي أدّت إلى توتّر المؤسسات التعاونية وممارسات التعددية. علاوة على ذلك، شهد النظام العالمي بالفعل عودة الحرب بين الدول في العام 2020، عندما خاضت أذربيجان وأرمينيا صراعًا قصيرًا أدّى إلى مقتل عدد من الجنود خلال سبعة أسابيع يساوي ما خسرته الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان على مدار 20 عامًا. وعرف المذهب الريعي “الماركنتالي” للتجارة تصاعدًا كبيرًا هذا العام والذي كان ظهر منذ العام 2016 على الأقل، عندما أشار استفتاءُ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانتخاب دونالد ترامب رئيسًا لأميركا إلى أن ردَّ الفعل الشعبي العنيف ضد التجارة المُحرَّرة والليبرالية قد وصل إلى حجمٍ حرج.
في غضون ذلك، على الرغم من أن الحرب في أوكرانيا والمنافسة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والصين استحوذت بشكل مفهوم على الكثير من اهتمام الغرب هذا العام، إلّا أنها أدت إلى إزاحة التطورات في أجزاء أخرى من العالم التي لم تكن أقل أهمية.
وتراوحت هذه التطورات من إنهيار إقتصاد لبنان وعدم إنتخاب رئيس للبلاد واستفحال الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية فيه، إلى عودة العنف بين إسرائيل والفلسطينيين الذي يُنذرُ باشتعال اتفاضة ثالثة، إلى استيلاء قيس بن سعيّد على السلطة بشكلٍ كامل الأمر الذي ولّد أزمة شرعية خصوصًا بعد الانتخابات النيابية الأخيرة، إلى استمرار الصراع في سوريا واليمن والعراق، إلى الحرب في إثيوبيا، حيث تم إسكات المدافع أخيرًا باتفاقٍ لوقف إطلاق النار، إلى القتال في شرق جمهورية الكونغو الديموقراطية، حيث يُهدّدُ العنف بالتحوّل إلى صراع عبر الحدود وحتى صراع إقليمي.
كانت هناك أيضًا احتجاجات على تكلفة المعيشة في جميع أنحاء أميركا اللاتينية وأماكن أخرى في العالم النامي والمتقدم، ما فَرَضَ ضغوطًا على الحكومات التي تجد نفسها أصلًا مُثقلة بأعباء الديون الثقيلة من الإنفاق الطارئ أثناء جائحة كوفيد-19.
وعلى الرغم من أن هذه القائمة ليست شاملة بأيِّ حال من الأحوال، فقد أكّدَ العام 2022 أيضًا أن الديموقراطيات الراسخة، مثل البرازيل والولايات المتحدة، صمدت أمام التهديدات لنزاهة انتخاباتها التي فشلت في تقويض نتيجة التصويت. في غضون ذلك، كادت الديموقراطية الهشّة في البيرو أن تستسلم لعدم الاستقرار المنهجي، بينما بدت السلفادور أنها تنزلق إلى الحكم الاستبدادي.
إن التزامَ “أسواق العرب” بتغطية تلك المجموعة الواسعة من البلدان والمناطق والقضايا بشكلٍ مستقل، موضوعي وغير مُرتَبط بأحد، هو ما يُمَيّزنا عن العديد من منافذ ومواقع الشؤون العربية والدولية الأخرى. في إلقاء نظرة على كيفية تغطية “أسواق العرب” للحرب في أوكرانيا في بداية الغزو الروسي في شباط (فبراير) وبعدها، تؤكّد ذلك، كما أنها تؤكّد أنه على الرغم من أهمية الصراع، فقد واصلنا تغطية “بقية العالم بكل تعقيداته” بتجرّد وموضوعية.
قد تبدو مثل هذه السلسلة من القصص والاتجاهات المُثيرة للقلق طريقة غير مناسبة لإغلاق العام الذي يسبق الأعياد. وسيكون الأمرُ كذلك إذا لم أضِف بعض الاتجاهات الأكثر إيجابية المعروضة هذا العام، وهو أمرٌ يتوقعه بلا شك قراء “أسواق العرب”.
في خضم هذا العام الصعب والمضطرب، كانت هناك أيضًا أخبارٌ جيدة. على جبهة الرياضة، نجحت قطر في إقامة وإدارة نهائيات كأس العالم لكرة القدم والتي وصفها العديد من المراقبين بأنها كانت واحدة من الأنجح في تاريخ اللعبة. وعلى جبهة المناخ، على سبيل المثال، تُمثّل اتفاقية إنشاء صندوق “الخسائر والأضرار” للبلدان الأكثر فقرًا التي تتحمّل وطأة آثار تغيّر المناخ تغييرًا في النموذج وانتصارًا لحملة المساواة في المناخ. على نطاق أوسع، أدّى الانتقال والتحوّل إلى مصادر الطاقة المُتجدّدة وتطوير التقنيات اللازمة إلى وتيرة أسرع لهذا التحوّل، حتى لو كان لا بدّ من حشد جهد أكبر لتجنّب أسوَإِ النتائج المُتوَقّعة لأزمة المناخ.
لكن الأمر الأكثر إلهامًا كانت الانتفاضة الشعبية التي قادتها النساء في إيران والتي هزّت مفاصل الجمهورية الإسلامية. ولم تتردّد طهران في قمع المتظاهرين بالعنف. وفيما لا تشير الانتفاضة إلى الزوال الوشيك للنظام الإيراني، لكنها تُظهر شجاعة الشعب الإيراني وفقدان الحكومة الإيرانية للشرعية الشعبية، وكلاهما يشير إلى أن أيام النظام، كما هو، باتت معدودة في نهاية المطاف.
وبالمثل، فإن الاحتجاجات الأخيرة ضد عمليات الإغلاق تحت عنوان “صفر كوفيد” في الصين قد كذّبت رواية بكين بأن نظامها الاستبدادي أكثر كفاءة في تقديم السلع والخدمات العامة من الديموقراطيات الليبرالية الغربية. وكان هذا السرد اكتسب زخمًا في الأشهر الأولى من الوباء، عندما احتوت تدابير الاستجابة الصينية القاسية بشكلٍ فعّال انتشار فيروس كورونا، بينما كافحت الدول في الغرب. ومع ذلك، بعد ثلاث سنوات، أصبح من الواضح أن الصين ربما أجّلت تكاليف الوباء، لكنها لن تفلت منها، مع ما يترتب على ذلك من آثار في قدرتها على إبراز قوتها في الخارج.
نتيجة لهذه التطورات المُفعَمة بالأمل وغيرها، أصبحتُ أكثر واقعية في الأشهر الأخيرة مما كنت عليه في السنوات الماضية. بدلًا من عام غيّرَ كلَّ شيء، أرى عامًا جعلَ كلَّ شيء مُمكنًا أكثر، في بعض الأحيان إلى الأسوَإِ ولكن أيضًا للأفضل. وبدلًا من النظام العالمي الذي انقلب أو تبلور في منافسة بين الديموقراطية والاستبداد –أو بين القومية والتعدّدية، أو أيّ تعارضات ثنائية أخرى– أرى نظامًا تشقّقت قشرته السطحية بطُرُقٍ تسمح لمجموعاتٍ واسعة ومتزايدة من الحركات الاجتماعية والسياسية لاختراقه، مثل البراعم الخضراء في الرصيف المُتصَدّع أو المُتَشقّق.
كل عام وأنتم بخير.