لعبة الروليت الأوروبية – الروسية! | بقلم أكرم بزي
عندما انضمّت روسيا إلى الحرب في سوريا، صُدمت الولايات المتحدة وصُدِم شركاؤها. وادّعى الرئيس باراك أوباما أنّ سوريا ستصبح “مستنقعًا” لروسيا وللرئيس فلاديمير بوتين، بقوله: “قد تكون سوريا هي فيتنام الروسية أو أفغانستان، وهو خطأ فادح سيرتد في النهاية ضدّ المصالح الروسية”. لكن روسيا غيّرت مسار الحرب، وتغيّرت المعادلة لمصلحة النظام في سوريا، ثم ترجمت القوة العسكرية إلى نفوذ ديبلوماسي. وبدلًا من ذلك، جمعت موسكو نفوذًا إقليميًا أكبر، يمتد من اسرائيل إلى ليبيا، واحتفظت بشريك مخلص للأسد لإبراز قوة روسيا. الأمر الذي فشلت إدارة أوباما في توقّعه هو احتمال نجاح التدخّل الروسي، وكان هذا الدخول بمثابة العودة إلى العالم من جديد.
بالنسبة إلى روسيا، قد يتخذ النصر في أوكرانيا أشكالًا متعددة. لا يجب أن يؤدي النصر إلى تسوية مستدامة، يمكن أن ينطوي على تنصيب حكومة ممتثلة في كييف، أو تقسيم البلاد. وبدلًا من ذلك، فإنّ هزيمة الجيش الأوكراني والتفاوض على استسلام أوكرانيا يمكن أن يحوّلا أوكرانيا فعليًا إلى دولة فاشلة. وبهذا ستكون أوكرانيا انفصلت فعليًا عن الغرب.
ستكون الولايات المتحدة وأوروبا أيضًا في حالة حرب اقتصادية دائمة مع روسيا، وخصوصًا بعد أن سعى الغرب لفرض عقوبات لم يسبق لها مثيل. وستكون أيضًا أمام إعادة هيكلة للنظام الأمني الأوروبي، شاءت ذلك أم أبت، لأنّ الوقائع على الأرض باتت حاكمة، جغرافيًا وعسكريًا وأمنيًا.
إنّ الوجود الروسي في أوكرانيا سيُنظَر إليه، من جانب جيران أوكرانيا، على أنّه استفزازي وغير مقبول. وبالنسبة إلى البعض، سيشكّل تهديدًا لأمنه. وسط هذه الديناميكية المتغيّرة، يجب تصور النظام في أوروبا من منظور عسكري في المقام الأول، والذي سيكون في مصلحة الكرملين، نظرًا إلى أنّ لروسيا يدًا أقوى في المجال العسكري منها في المجال الاقتصادي (وهو ما يصبّ في مصلحة الكرملين): تهميش المؤسسات غير العسكرية، مثل الاتحاد الأوروبي.
تمتلك روسيا أكبر جيش تقليدي في أوروبا، وهو أكثر من جاهز للاستخدام. السياسة الدفاعية للاتحاد الأوروبي – على عكس سياسة الناتو – بعيدة كل البعد عن كونها قادرة على توفير الأمن لأعضائها. وفي حالة فوز روسيا في أوكرانيا، فإنّ موقف ألمانيا في أوروبا سوف يواجه تحدّيات شديدة. ألمانيا قوة عسكرية هامشية، أسست هويتها السياسية بعد الحرب على رفض الحرب. وعلى الرغم من التطور البارز، من حيث تعديل الميزانية العسكرية وإعادة العمل على تدعيم الجيش الألماني، فإنّه لن يفرض تعديلًا ما في الخريطة الأمنية المستجدة.
دفعت الولايات المتحدة الأميركية كل حلفائها إلى دعم النظام الأوكراني، في كل طاقاتهم، بغية إرساء معادلة “مقاومة الغزو الروسي”، من أجل دفع روسيا نحو حرب استنزاف طويلة الأمد، تُستنزف فيها روسيا وأوروبا، على حدّ سواء. وبهذا، تكون أميركا أشغلت الأوروبيين، بعضهم ببعض، وبقيت سيدة الكلمة في الغرب.
وكما أنّ للولايات المتحدة أسلوبها في فرض العقوبات على روسيا، ففي إمكان روسيا أن تقوم بما تقدر عليه.
وماذا عن تدفُّق ملايين اللاجئين إلى أوروبا، والتي ستفاقم سياسة الاتحاد الأوروبي بشأن اللاجئين التي لم يتمّ حلها، وستوفر أرضًا خصبة للشعبويين، والتي سيتمّ استغلالها في الغرب. وقد يؤدي انتخاب دونالد ترامب مرة ثانية، أو “أحد ما يحمل التوجّهات الترامبية نفسها”، إلى تدمير العلاقة عبر الأطلسي في ساعة الخطر القصوى في أوروبا، الأمر الذي سيهدّد وحدة الناتو. والناتو هو الوسيلة المنطقية التي يمكن للولايات المتحدة، من خلالها، توفير الطمأنينة الأمنية لأوروبا وردع روسيا. إنّ الحرب في أوكرانيا أحيت الناتو، ليس كمشروع لبناء الديمقراطية، أو كأداة لبعثات خارج المنطقة، مثل الحرب في أفغانستان، لكن كتحالف عسكري دفاعي. على الرغم من أنّ الأوروبيين سيطالبون الولايات المتحدة بالتزام عسكري أكبر تجاه أوروبا، فإنّ هذا الأمر سيزيد في تكلفة أوروبا في الميزانيات العسكرية الباهظة للناتو.
في دراسة مشتركة لـ ( LIANA FIX وGerman Marshall Fund ) [1]، تقول إنّ النتيجة المريرة لحرب أوكرانيا هي أنّ روسيا والولايات المتحدة ستواجه إحداهما الأخرى الآن، كعدوتين في أوروبا. ومع ذلك، ستكونان عدوتين لا تستطيعان تحمّل الأعمال العدائية إلى ما بعد عتبة معينة. بغض النظر عن وجهتي نظريهما بشأن العالم، ومهما كانت متعارضة أيديولوجيًا، فإنّ القوتين النوويتين الأكثر أهمية في العالم سوف تضطران إلى السيطرة على غضبهما. ومع ذلك، فإنّ الحالة لا تسمح بالتصعيد والتحول إلى حرب مباشرة. في الوقت نفسه، يمكن أن تمتد المواجهة الأميركية – الروسية في أسوأ الأحوال لتشمل الحروب بالوكالة في الشرق الأوسط أو إفريقيا، إذا قرّرت الولايات المتحدة إعادة تأسيس وجودها بعد الانسحاب من أفغانستان. سيكون الحفاظ على التواصل، وخصوصًا في ما يتعلق بالاستقرار الاستراتيجي والأمن السيبراني، أمرًا بالغ الأهمية. من الجدير بالذكر أنّ التعاون الأميركي- الروسي بشأن الأنشطة السيبرانية الخبيثة مستمر حتى خلال التوترات الحالية. ستكون ضرورة الحفاظ على اتفاقيات صارمة للحدّ من الأسلحة، أكبر بعد حرب أوكرانيا ونظام العقوبات الذي يتبعها.
هل كان بوتين يغامر في دخوله أوكرانيا؟ نعم. لكن، هل كان لديه خيارات أخرى؟ كلا. فالولايات المتحدة والغرب الأوروبي لم يتركا له مجالًا لخيارات أخرى. والواضح أنّ الرئيس بوتين حُشر في هذه الزاوية، والتي لو بقي فيها لكانت روسيا ستعاني الصلف والاستفزاز، ولكانت أميركا نصبت صواريخها المدمّرة في اتجاه الكرملين على بعد 25 كيلومترًا فقط.
لا شك في أنّ الدخول الروسي لأوكرانيا سيكون مكلفًا، عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا، إلّا أنّ مردوده، فيما لو نجح، ستكون له آثاره، أقلها كسر الأحادية القطبية في العالم، وإعادة هيكلة النظامين الأمنيَّين، الأوروبي والعالمي، على نحو لا تشتهيه الولايات المتحدة والدول الدائرة في فلكها.