ما بين إلفيرا نابيولينا ورياض سلامة؟ | بقلم خالد زين الدين
– كيف تمكّنت أقوى إمرأة في روسيا من إنقاذِ الإقتصاد الروسي من الإنهيار؟
– بعد أنْ أمَر الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” قواتِه بغزو أوكرانيا في فبراير / شباط الماضي؛ وَضَعت أميركا عددًا من الخُطط والسيناريوهات لِزعزعةِ الإقتصاد الروسي، وكان أكثر ما يَشْغَلُهم هو ردّ فعل شخصيّةٍ روسيّةٍ معيّنةٍ أمام هذه العقوبات، وكيف ستَتَصرف هذه الشخصيّة؟
وهل يُمكن لتلك الشخصية التقليل من تأثير العقوبات الإقتصادية على روسيا كما فَعَلت سابقًا؟
وهل ستَنجح في إنقاذ الإقتصاد الروسي هذه المرّة أيضًا أم لا ؟
-أمّا سرُّ اهتمام البيت الأبيض بهذه الشخصية الروسية فيكمن في معرفة أميركا بمدى ذكائها وكفائتها في إدارة الإقتصاد؛ مما شَكَّل تحدّيًا كبيرًا جدًّا للمسؤولين الأميركيين الذين كانوا يُخطِّطون للإضرار بالإقتصاد الروسي، بهدف إيقاع الأذى الأكبر على “بوتين”..
– هذه الشخصيّة هي «إلفيرا نابيولينا»، محافظ البنك المركزي الروسي، والخبيرة الإقتصادية التي تُعَدُّ واحدةً من أفضل مسؤولي البنوك المركزيّة وأنجحهم على مستوى العالَم، وهذا بشهادة نُظرائها الغربيِّين، حيث وصفتها مجلّة «الإيكونومست » بأنّها الذراع اليُمْنَى لبوتين؛ وهذا ببساطة لأنَّ الرئيس الروسي يثق بها ثقةً كبيرة جدًّا ،لدرجة أنّه يَتْبَع آراءَها في أغلب الأوقات، ويقف في صفِّها أمام أيِّ شخصٍ مَهما كان مُقرَّبًا منه. ولذلك أصدر “بوتين” منذ أيّامٍ قرارًا بالتجديد لها في منصب محافظ البنك المركزي الروسي لمدة خمسة أعوام قادمة، رغم أنَّ ميعاد التجديد لم يحِن بعدُ.
-وفي الأيّام الأخيرة، أثبتَت «نابيولينا» أنَّ مخاوف الأميركيين كانت في محلّها؛ ونَجَحَت في إنقاذ الروبل من الضَّياع بعد أنْ فَقَد نصف قيمتِه في بداية الحرب، فأعادت قيمته حاليًا كما كان عليه قبل الحرب تقريبًا؛ وهذا ما يدفعنا لطرح الأسئلة التالية :
مَن هي «إلفيرنا نابيولينا»؟ ومِن أين أتت؟
وما هي خِبْراتُها؟
ولماذا يثق بها “بوتين” إلى هذا الحد؟
وكيف إستطاعت فرض سيطرتها على القطاع المصرفي الروسي؟
ولِمَ تُعَدُّ واحدةً من أفضل الخبراء الإقتصاديِّين في العالم؟
وكيف أنقذَت الاقتصادَ الروسيَّ سابقًا من أزمةٍ كبيرة؟
وهل تستطيع إنقاذ الإقتصاد الروسي هذه المرة أيضًا؟
وكيف تمَكّنت من السيطرة على إنهيار الروبل الروسي ؟
-منذ تسع سنوات تقريبًا، -وتحديدًا في السابع من مارس / آذار عام ألفين وثلاثة عشر ٢٠١٣ ، سأل أحدُ الصحفيين الرئيسَ الروسي “فلاديمير بوتين”: مَن الذي ستُعيِّنه في منصب محافظ البنك المركزي الروسي بعد تقاعُد المحافظ الحالي «سيرغي إغناتيف» في يونيو / حزيران الماضي “؟
فردَّ بوتين قائلًا: “المحافظ الجديد سيكون مفاجأة، ولكنها ستكون مفاجأة لطيفة”.
ولم يكتشف أحدٌ حينها مَن هو الشخص الذي يقصده بوتين؟ وإستمرَّت التساؤلات بين الناس والصحافة وحتّى المسؤولين في الحكومة الروسيّة، إلى أنْ قَدَّم بوتين بنفسه المحافظَ الجديد للصحفيين في مَقَرِّ إقامته في منطقة «نوفو أُوغاريوفو» في الثاني عشر من الشهر نفسه.
-فكان المحافظ الجديد هو مُستشارته الإقتصادية «إلفيرنا نابيولينا»، وهذا القرار شكَّل مفاجأةً للجميع؛ ليس فقط لأنها أول إمرأة تُشغل هذا المنصب في روسيا ، ولكن أيضًا لأنَّ إسمها لم يكن من ضمن الأسماء المرشَّحة بقوّة للمنصب، بل كانت هناك أسماء كثيرة أكثر شهرةً منها ؛ ممّا أثار تساؤلات عدّة، ومنها: هل إختار الرئيس بوتين «نابيولينا» لأنّه يضمن ولاؤها أو كان إختياره لها لكفائتها؟ بعبارة أخرى: هل تستطيع نابولينا إدارة البنك المركزي بإستقلالية، أو أنّ “بوتين” سيتدخّل من خلال قراراتها في سياسات البنك المركزي ؟
-قبل الدخول بالموضوع فلنُلقِ نظرة ونتعرّف على «نابيولينا» ،وإلى أسباب ثقة الرئيس الروسي بها :
في أكتوبر / تشرين الأوّل من عام ألفٍ وتِسْعِمائةٍ وثلاثةٍ وستين ١٩٦٣ ، أنجب إثنانِ من التتار المقيمين في منطقة أوفا «باشكورستان» في الإتحاد السوفييتي طفلةً أطلقا عليها إسم «نابيولينا»، وهو إسم مُشْتَقٌّ من العربيّة: “نبيّ الله”. والدها يعملُ سائقًا ويُدْعى «ساخيبزادا سيتزاداييفيتش »، ووالدتها تعمل في مصنع وتُدعَى «زُليخة خاماتنوروفنا » .
وكانت «نابيولينا» طالبةً مُتَفَوِّقةً في جميع مراحل دراستها، وقد تخرَّجت من جامعة موسكو عام ألفٍ وتسعِمائةٍ وستة وثمانين ١٩٨٦ ، وعَمِلَت عام ألف وتسعمائة وأربعة وتسعين ١٩٩٤ كمُوَظّفةٍ في وَزارة التنمية الإقتصاديّة والتجارة في روسيا، وإستمرَّت في وظيفتها حتّى تولّيها منصب نائب الوزير عام ألف وتسعمائة وسبعة وتسعين ١٩٩٧، وبعدها بعشر سنوات – وتحديدًا في سبتمبر / أيلول عام ألفين وسبعة – أسند إليها الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” وزارة التنمية الإقتصادية والتجارة في روسيا، وإستمرَّت في هذا المنصب حتى مايو/ أيار من عام ألفين وإثني عشر ٢٠١٢.
ثمّ عُهِد إليها بمنصب مساعد الرئيس للشؤون الإقتصاديّة، وإستمرَّت «نابيولينا» في هذا المنصب إلى أنْ عُيِّنت محافظًا للبنك المركزي الروسي في عام ألفين وثلاثة عشر ٢٠١٣.
من هنا بدأت رحلتها مع أرفع وأهمّ منصبٍ إقتصادي في روسيا. بدايةً، كانت هناك شكوك كثيرة حول كفاءتها ومدى صلابَتها في إدارة البنك المركزي؛ وذلك نظرًا للمشكلات والعقبات التي كان القطاع المصرفي الروسي يعاني منها آنذاك، ومنها: عدم إنضباط الأمور، وتخبُّط القرارات وتغييرها بإستمرار، وعدم وجود سياسة محدّدة له، وتَعثُّر البنوك وعدم التزامها بالقواعد التنظيميّة التي تحكم السوق.
ومن اليوم الأوّل، وجَّهت «نابيولينا» تحذيراتٍ جادّةً للبنوك ، وهدَّدت بإغلاق البنوك التي لا تَلتزم بالقواعد، وبِسَحْبِ رُخَصها أيًّا كان مُلَّاك تلك البنوك.
كما تَعهَّدَت «نابيولينا» بتطهير القطاع المصرفي الروسي من البنوك التي يثبت تلاعبها؛ وأول بنك أَوْقَعَت عليه عقوبة الإغلاق هو البنك الروسي (MASTER BANK).ففي نوفمبر / تشرين الثاني من عام ألفين وثلاثة عشر، أصدرت «نابيولينا» قرارًا بسحب ترخيص هذا البنك، وكانت تلك مفاجأة كبيرة جدًّا؛ لأنَّ هذا البنك له صلة بإيغور بوتين – وهو إبن عم الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” – حيث كان إيغور نائبَ رئيس البنك نفسه الذي أغلقته نابيولينا ، وعضو مجلس إدارته، وبالرغم من هذا أصدر البنك المركزي قرارًا بسحب رخصة ذلك المصرف.
وفي العام الأول من تَوَلّي «نابيولينا» مَهام منصبها، سَحَب البنك المركزي تراخيصَ سبعةٍ وثلاثين بنكًا، وفي الأَشْهُر الخمس الأولى من عام ألفين وأربعة عشر ٢٠١٤ ، تمَّ سحب تراخيص خمسين بنكًا، وإستمرَّت «نابيولينا» في سحب رخصة أيِّ بنك تثبت عليه التلاعبات.
أي أنَّ «نابيولينا» تولَّت القطاع المصرفي الروسي في عام ألفين وثلاثة عشر ٢٠١٣ وهو يضمّ أكثر من ألف بنك ومؤسّسة إئتمانيّة؛ وأَخَذت تسحب تراخيص البنوك التي لا تَلتزم بالقوانين إلى أنْ وصل عدد البنوك والمؤسّسات الإئتمانية في روسيا اليوم إلى ثلاثمائةٍ وسبعين ٣٧٠ فقط، وهذا أمرٌ مدهش! لأنَّ عددًا كبيرًا من البنوك التي سُحِبت تراخيصها لم يكن أحد، قبل «نابيولينا»، يجرؤ على المساس بها، وذلك بسبب العلاقات التي تربط أصحابها ومُديريها بالسلطة، ولكنَّ “بوتين” أعطى الضوء الأخضر لنابيولينا، وتركها تُدير القطاع المصرفي وَفْقَ ما تراه مناسبًا.
-وعندما سُئِل” بوتين” في لقاء صحفي، عام ألفين وأربعة عشر ٢٠١٤، عن البنوك الكثيرة التي أغلقتْها «نابيولينا»، أجاب بوتين: “إنَّ سحب التراخيص هدفُه تحسين النظام المالي لروسيا، وتطهيره من المؤسّسات المالية التي لا تفي بإلتزاماتها”.
-فقد كانت «نابيولينا» وقراراتها مَحَلَّ ثقة بالنسبة للرئيس “بوتين”، وزادت ثقته بها بعد الإجراءات الحاسمة التي إتخذتها في العامين الأوَّلَين من تولّيها منصبها.
-وهنا سؤال يطْرَحُ نفسَه: ما هي تلك الإجراءات الحاسمة التي قامت بها «نابيولينا» في هذَين العامَين؟
إنَّ «نابيولينا» ومنذ تولّيها لمنصب رئيس البنك المركزي توالت عليها الأزمات، ففي عام ألفين وأربعة عشر ٢٠١٤ واجهَت روسيا ثلاث أزماتٍ مُتزامنة، وهي:
• تراجُع أسعار النفط.
• فرْضُ الغرب عقوباتٍ إقتصادية ً على روسيا بعد إحتلالها لشبه جزيرة القرم.
• وهروب رأس المال الأجنبي من روسيا.
فهذه الأزمات أثّرث بشكلٍ واضح على قيمة الروبل الروسي، وكان البنك المركزي الروسي في ذلك الوقت يتَّبِع سياسة التعويم المُدار؛ أيْ تعويم الروبل تعويمًا جزئيًّا وليس كاملًا؛ فكان الروس يحاولون جعل سعر صرف الروبل أمام الدولار قريبًا من ثلاثين روبل لكلّ دولار واحد، وبعد وقوع تلك الأحداث عام ألفين وأربعة عشر ٢٠١٤ أصبحت هذه السياسة مُكْلِفةً جدًّا.
ولكي ينجح البنك المركزي في تثبيت الروبل عند هذا المستوى في ظلِّ الأزمات التي تمرُّ بها البلاد؛ كان يلجأ أحيانًا للمضاربة في سوق الفوركس أو العملات الأجنبية، ويقوم بشراء الروبل ويبيع الدولار، وهنا يطرحُ السؤال نفسه : من أين يأتي بالدولار؟
والجواب: يأتي به من الإحتياطي النقدي دون شكّ.
فعلى مدى أحد عشر شهرًا من عام ألفين وأربعة عشر ٢٠١٤ ، حرق البنك المركزي الروسي أكثر من تسعين مليار ٩٠ دولار في السوق لدعم الروبل أمام الدولار، إلّا أنَّ سعر صرف الروبل أمام الدولار ظلَّ ضعيفًا، فما كان أمام روسيا إلّا خياران:
إمَّا أنْ تستمرّ في حرق الإحتياطيّ، وتقوم بما قامت به في عام ألفين وثمانية ٢٠٠٨ ، عندما تمَّ صَرْف ثلث إحتياطياتها تقريبًا لحماية الرّوبل؛ أو أن تلجأ للخيار الذي سيُغضِبُ العالم، وغالبًا سيكون له تكلفةٌ سياسيّةٌ كبيرة، وهو تعويم الروبل بشكلٍ كاملٍ.
فاختارت «نابيولينا» الخيار الأصعب.لأنّها كانت ترى أنه هو الأصلح لروسيا، وأشارت على “بوتين” بضرورة تعويم الروبل بشكلٍ كاملٍ، مُحذِّرةً من الوصول إلى طريق مسدود فيما يخصّ إنقاذ العملة الروسيّة .
فكانت ترى أنَّ المليارات التي تُحْرَقُ في الدفاع عن الروبل، من الأَفضل دفعها لدعم الشركات الروسيّة التي ترزحُ تحت وطأة ديون دولاريّة ضخمة، حيث أنَّ عددًا من كُبرى الشركات الروسيّة كان يجب عليها في آخِر ثلاثة أشهُر فقط من عام ألفين وأربعة عشر ٢٠١٤ سداد حوالي ستين ٦٠ مليار دولار، وإذا عَجَزت تلك الشركات عن سداد ديونها في موعدها؛ فستزيد من الأزمة التي تُعانيها البلاد، وستكون مُعرّضةً للخطر . وفي نوفمبر/ تشرين الثاني من عام ألفين وأربعة عشر ٢٠١٤، تمّ تَعويم الروبل بشكلٍ كاملٍ.
بدايةً سَبَّبَ هذا القرار أزمةً في روسيا ،ولا سيّما على مستوى المستهلكين الذين تراجعت قيمة مُدَّخراتهم مع تراجُع قيمة الروبل بعد تعويمه.
فخسر الروبل أربعين في المئة من قيمته في عام ألفين وخمسة عشر ٢٠١٥ ولكن مع هذا الإجراء وإلى جانب إجراءات أخرى مهمّة إستطاعت روسيا أنْ تَتجنَّب السيناريو الأسوأ وهو الإنهيار الإقتصادي.
-وتزامُنًا مع هذه الإجراءات، أَعْطَت «نابيولينا» إهتمامًا كبيرًا لزيادة إحتياطيّ البلاد من النقد الأجنبي؛ بحيث تستطيع أنْ تَتجنَّب أيَّة أزمة يُمكن حدوثها في أيِّ وقت.
ونَجَحَت سياستها بالفعل؛ ففي عام ألفين وأربعة عشر ٢٠١٤ وصلَ إحتياطيّ روسيا من النقد الأجنبي إلى ثلاثمائةٍ وخمسة وثمانين ٣٨٥ مليارَ دولار، وفي فبراير / شباط الماضي وصل إحتياطيّ البنك إلى ستمائة وثلاثة وأربعين ٦٤٣ مليار دولار، وزاد إحتياطيّ الذهب حتى بَلَغَ ألفين وثلاثمائة ٢٣٠٠ طنٍّ تقريبًا، وكان هدف الروس هو ألَّا يُضْطَرُّوا في أيِّ وقت من الأوقات إلى الإقتراض من صندوق النقد الدولي.
ولكن الأهمّ من حجم الإحتياطي هو تكوينه، فكانت «نابيولينا» حريصةً على تقليل النسبة التي يُمَثِّلُها الدولار من إحتياطيّ البنك المركزي من النقد الأجنبي للحدِّ الأدنى، ففي عام ألفين وسبعة عشر ٢٠١٧ كان الجزء الأكبر من إحتياطيّ روسيا – وتحديدًا أكثر من أربعين ٤٠ % في المائة منها – من الدولار الأميركي، وفي عام ألفين وواحد وعشرين ٢٠٢١ أصبحت نسبة الدولار في الإحتياطي الروسي من النقد الأجنبي ستة عشر ١٦ % في المئة فقط، وبفضل سياسة «نابيولينا» إستطاعت روسيا أنْ تسيطر على مُعدَّل التضخّم والذي تَخطَّى حاجز الخمسة عشر ١٥ % بالمائة في عام ألفين وخمسة عشر، ٢٠١٥ رغم الضغوط والأزمات التي كانت تعانيها البلاد.
إستمرَّ معدّل التضخّم في البلاد بالتراجع إلى أنْ وصل إلى ثلاثةٍ فاصل أربعةٍ ٣،٤% في المائة من العام ألفين وعشرين ٢٠٢٠.
-إنَّ الثقة في قرارات «نابيولينا» الصائبة كانت من الأسباب الرئيسة لعودة المستثمرين الأجانب لروسيا، بعدما حدث في عام ألفين وأربعة عشر ٢٠١٤، وضخِّهم لعشرات المليارات من الدولارات في روسيا، بعد أنْ كانت خمسة مليارات دولار تخرج من البلاد شهريًّا؛ فهي لم تُوقِف نزيف الأموال الهاربة فحسب، بل جذبت الإستثمارات الأجنبية إلى البلاد.
إذًا، كانت الإحتياطيّات التي كَوَّنها البنك المركزي في السنوات الأخيرة هي الأساس الذي بُنِيت عليه خطّة «روسيا الحصينة ».
تلك الخطّة الإقتصادية التي حاولت روسيا من خلالها أنْ تتفادى الورطة التي واجهتها عام ألفين وأربعة عشر ٢٠١٤ والتي إعتمدَت عليها إبَّان إستعدادها للحرب مع أوكرانيا.
كان من ضمن حسابات الروس، أنّه في أسوأ الظروف إذا توقَّف الأوروبيون عن شراء النفط والغاز الروسي، ستكون هذه الإحتياطيّات قادرةً على دعم البلاد لسنوات كثيرة. ولكن ما أغفله الروس ولم يحسبوا له الحسبان هو إستهداف أميركا وحلفاؤها لتلك الإحتياطيّات.
فالأميركيون تحديدًا كانوا يُراقبون تحرّكات «نابيولينا» طوال فترة عملها.
وبالعودة إلى”نابيولينا”: بالنسبة لها وللكثير من المسؤولين الروس، كانت فكرة تجميد إحتياطيّات البنك المركزي الروسي مُجرَّد إحتمالٍ نظريٍّ غير واقعيٍّ؛ حيثُ لم يسبق تنفيذها ضد دولة كبيرة بحجم روسيا.
دخل “بوتين” جورجيا في عام ألفين وثمانية ٢٠٠٨ واحتلّ جزيرة القرم عام ألفين وأربعة عشر ٢٠١٤، وفُرِضت عقوبات على روسيا، لكنها لم تًمَسَّ إحتياطيّات البنك المركزي، ولكن بعد غزو أوكرانيا الوضع إختلف وما كان مُسْتحيلًا من وجهة نظر الروس أصبح واقعًا:
ففي أواخر فبراير / شباط الماضي، بدأت أميركا وحلفاؤها في تجميد إحتياطيّات البنك المركزي الروسي الموجودة لديهم ، بِجَرَّة قلم حرموا روسيا من حوالي أربعمائة ٤٠٠ مليار دولار من إحتياطيّاتها من النقد الأجنبي، ممّا شكَّل صدمةً كبيرةً جدًّا للمسؤولين الروس ، وفي مُقدِّمتهم طبعًا «إلفيرا نابيولينا».وبحسب ما ذكَرَته الكثير من الصحف الغربية، أنّ «نابيولينا» قد تفاجأت بقرار الحرب، وكانت رافضةً لها، ويُقال أيضًا: أنَّها فَكَّرَت في الإستقالة، لكنّ الرئيس “بوتين” رفض الفكرة.
-فقد طلب “بوتين” من البرلمان الروسي بأنْ يتمَّ التجديد لنابيولينا خمس سنوات، تبدأ من يونيو/ حزيران القادم، وبغضِّ النظر عن حقيقة موقفها من الحرب، فإنّ «نابيولينا» أَصْبَحَت جزءًا من المعركة الآن.
– لقد قامت أميركا وحلفاؤها في أوروبا بشنِّ حربٍ إقتصاديةٍ غير مسبوقة على روسيا، أمّا «نابيولينا» ومن واقع مسؤوليّتها كمحافظ للبنك المركزي الروسي أَخَذَت تُدافِع عن الإقتصاد الروسي أمام تلك العقوبات، وتحاول قَدْرَ الإمكان أنْ تُقلِّل من تأثيرها.
وأوّل مهمّة صعبة وَاجَهَتْها هي تداعي قيمة الروبل، الذي فَقَد أكثر من نصف قيمته في الأيّام الأولى من الحرب بعد تراجُع سعره إلى مائة وخمسين روبل ١٥٠ مقابل الدولار الواحد.
كانت هذه مَهمَّةً شبه مستحيلة؛ لأنها كانت أمام إشكاليّة كبيرة؛ ففي الوقت الذي كان يُطْلَب منها المدافعة عن الروبل، كان البنك المركزي لا يستطيع الوصول لأغلب إحتياطيّاته.
وبعد إجتماع ٍ مع مجلس إدارة البنك المركزي في الثامن والعشرين من فبراير / شباط الماضي، أعلنَت «نابيولينا» رفع سعر الفائدة الرئيسي من تسعة ونصف في المائة إلى عشرين في المائة؛ وذلك للسيطرة على حركة الدَّوْلَرة الشرسة التي بدأت في البلاد بعد ساعاتٍ من الحرب، وفي الوقت نفسه قَرَّرَت فرْضَ ضوابط على حركة رأس المال.
ففي مثل هذه الظروف الحرجة التي تمرُّ بها روسيا، قد يلجأ المسؤولون إلى إخفاء الحقائق الصعبة عن الناس لتهدئتهم وطمأنتهم، لكن «نابيولينا» لم تتّبع تلك السياسة؛ فخرجَت في الثامن عشر ١٨ ،من مارس/ آذار الماضي في مؤتمر صحفي، وأوضحت للناس الحقيقة الكاملة، وحقيقة إنكماش الإقتصاد الروسي وزيادة التضخّم في ظلِّ الأوضاع الحاليّة.
وبعد فترةٍ قصيرةٍ إستطاعت إعادة قيمة الروبل إلى السعر الذي كان عليه قبل الحرب تقريبًا، وإستطاعت في الوقت نفسه أنْ تُجَنِّب روسيا سيناريو التخلُّف عن سداد ديونها، ممّا خَفَّف الضغط على روسيا، وبالتّالي على الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، وكان هذا سرَّ إهتمام خصوم روسيا بنابيولينا.
ففي الرابع والعشرين من مارس/ آذار كتب الصحفي الأميركي الشهير «جيمس فريمان» مقالًا في ( The Wall Street Journal)؛ طلب فيه من الرئيس الأميركي «جو بايدن»، ونائبته «كامالا هاريس» العمل على جَذْب «نابيولينا» لصفِّ أميركا، والترحيب بها في أميركا بشكلٍ صريحٍ، وإستمالتها إعتمادًا على التقارير التي أَكَّدَت رفْضَها للحرب ورغبتها في تقديم إستقالتها.
وبعد يومين، وتحديدًا في السادس والعشرين من مارس / آذار نصح صحفيٌّ آخَر في «تلغراف» البريطانيّة أجهزة الإستخبارات الغربيّة بأنْ تحاول إستمالة «نابيولينا» وإقناعها بالإنقلاب على بوتين، ممّا سيُشكِّل ضربةً كبيرةً لبوتين، وسيؤثِّر بشكلٍ كبيرٍ على قدرة روسيا على الإستمرار في الحرب؛ لأنّه يرى أنَّ “بوتين” دخل تلك الحرب وهو واثق من إدارة «نابيولينا» للأمور بإحترافية فائقة، وقدرتها على تجنيب الإقتصاد الروسي السيناريو الأسوأ.
ويقول عالِم الاقتصاد الأميركي الشهير «بول كروغمان» ،الفائز بجائزة نوبل في العلوم الإقتصادية ، في تعليقه على قرارات «نابيولينا» ونجاحها في إنقاذ الروبل:” واضح جدًّا أنَّ الأمر الوحيد الجدير بالملاحظة في الحرب الروسيّة الأوكرانيّة هو، أنَّ المسؤولين الإقتصاديين في روسيا أكثر كفاءةً من جنرالاتها”.
وإنطلاقًا من هذه التعليقات فإنّ «نابيولينا» حصلت على حراسةٍ مشدّدةٍ ترافقها في كلِّ مكان، حتى في مقرّ إقامتها، مَهمَّتُها الرئيسة هي الحفاظُ على حياة أهمِّ مسؤولةٍ إقتصاديةٍ في البلاد.
– قد يظنّ البعض أنَّ شهرة «نابيولينا» بدأت مع الحرب، ولكنَّ هذا غير صحيح، فـ«نابيولينا» محطُّ أنظار العالم منذ تولّيها رئاسة البنك المركزي في عام ألفين وثلاثة عشر ٢٠١٣.وفي عام ألفين وخمسة عشر ٢٠١٥ اختارتها مجلة (Your Money) كأفضل محافظ بنك مركزي لذلك العام، وفي عام ألفين وسبعة عشر ٢٠١٧ إختارتها مجلّة (The Banker) كأفضل محافظ بنك مركزيّ في أوروبا، وفي عام ألفين وثمانية عشر ٢٠١٨ صَنَّفتها (Forbes) كواحدةٍ من أقوى النساء في العالم. كما أنَّ رئيسة البنك المركزي الأوروبي والرئيسة السابقة لصندوق النقد الدولي «كريستين لاغارد» شبَّهت «نابيولينا» بقائد الأوركسترا العظيم.
– أمّا الأمر اللّافِت في شخصيّة «نابيولينا »، فهو أنّها شخصٌ قليل الكلام، وغير ميّالة للظهور الإعلامي، وتصريحاتها دائمًا مقتضبة، وترتدي عادةً الملابس الكلاسيكيّة، ويَصْعُب تمييزها إذا وُجِدَت في غرفة كبيرة وسط مجموعة كبيرة من الحضور.
وبالرغم من ذلك تَتولَّى هذه السيدة الآن أصعب مهمّة في العالَم، وهي إنقاذ الإقتصاد الروسي من الضياع، والتصدّي لهذه الحرب الشرسة ضدّه. وقد نَجَحَت في أداء هذه المهمّة حتى الآن في ظلِّ الإمكانات المتاحة لها.
فهل تعتقد أنَّ أميركا وحلفاؤها في أوروبا قد ينجحون في حثِّ «نابيولينا» على الإنقلاب على “بوتين”، وإقناعها بترك البلاد والإنتقال إلى أميركا، كما حصل مع مبعوث “بوتين” للمناخ الإقتصادي؟
وهل تعتقد أن إلفيرا نابيولينا هي الورِيث الشرعي للرئيس بوتين في قيادة روسيا بعد إنتهاء ولايته؟
وهل تعتقد أننا في لبنان بحاجة إلى إلفيرا نابيولينا ؟
وهل المصرف المركزي اللبناني بحاجة لإنقاذ من حاكمه وإستبداله بحاكمة البنك الروسي؟
وهل الفرق بين إلفيرا نابيولينا ورياض سلامة في النجاح بإنقاظ الليرة هي الخبرة أم الإنتماء الوطني والإخلاص القومي؟
وأخيراُ لماذا تنجح نابيولينا ويفشل رياض سلامة ؟