جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية: مسارات شكوى والموقف الأميركي المحتمل | بقلم د. عوض سليمية
يبدو ان قادة البيت الابيض لم يتعلموا شيئًا من دروس التاريخ ونهايات الاستعمار. وسوف تمارس واشنطن كافة اشكال الضغط لقطع الطريق على قرار قضاة محكمة العدل الدولية لمنعهم من إدانة إسرائيل بإرتكابها اعمال ابادة جماعية. ومهما يكن القرار الصادر، سواء إدانة اسرائيل بتنفيذ اعمال ابادة جماعية و/أو الزامها بوقف إطلاق النار، فان ذلك يعني بالنسبة لاسرائيل شيئًا واحدًا هو، كارثة ستلحق بها على كافة المستويات. بما فيها من بين امور اخرى، نسف الرواية الاسرائيلية الزائفه التي دأبت على نشرها في اوساط المجتمعات الغربية. بينما تقف الرياح القانونية في ظهر الفلسطينيين، فإن قرارات المحكمة سوف تلحق تشققًا في الدرع الفولاذي المكسو بالقوة الأميركية، والمصمم لابقاء اسرائيل خارج سياق المساءلة القانونية.
بعد المرافعة التاريخية والمتماسكة قانونيًا التي قدمها محامو جنوب افريقيا، والتي تؤكد وجود نية لدى قادة الاحتلال الاسرائيلي بإرتكاب ابادة جماعية بحق المواطنين في قطاع غزة، اصبحت محكمة العدل الدولية تسبب ازعاجًا وتوترًا في اوساط قادة الاحتلال. فسمعة اسرائيل وروايتها الزائفه بدأت تغرق، وباتت اسرائيل تتعرض للضرب القانوني من معظم دول العالم.
يمتد القلق على نطاق واسع لضرب قلب مؤيدي إسرائيل عبر العالم، لان من شأن إدانة اسرائيل بارتكاب اعمال ابادة جماعية، جر بلادهم تلقائيًا بموجب احكام المادة الثالثة من اتفاقية منع وقوع الابادة الجماعية، باعتبارها دول متواطئة وشريك يقدم كل الدعم لاسرائيل وفي المقدمة منها الولايات المتحدة. مع الاخذ بعين الاعتبار، ان تصديق مجلس الشيوخ الأميركي على إتفاقية منع وقوع الابداة الجماعية كان مشروطًا – جعل الإبادة الجماعية جريمة بموجب القانون الأميركي، بعدم تقديم الولايات المتحدة إلى المحكمة دون موافقة حكومتها” . بعبارة اخرى، اغلقت واشنطن الابواب امام قرارات محكمة العدل الدولية. على الرغم من عدم إظهار جنوب افريقيا اهتمامًا في دعوتها المقامة لملاحقة واشنطن او تحدي سلطة الغرب. وان الاولوية للافريقيين في قضيتهم المنظورة هو الحصول على حكم مُلزم من المحكمة الدولية يجبر اسرائيل على وقف العدوان المُدمر على قطاع غزة. وسيُنظر في باقي التهم المدرجة على لائحة المرافعة المكونة من 84 صفحة في عدة مرافعات وجلسات قد تستغرق سنوات عديدة .
في هذه الورقة يجادل الباحث بان الولايات المتحدة وحلفائها من الغرب الجماعي سوف يمارسون اقصى درجات الضغط على قضاة المحكمة من الدول المؤيدة للحق الفلسطيني “دعوى جنوب افريقيا”، لاجهاض أي قرار متوقع ان يصدر عن المحكمة يدين اسرائيل بارتكاب اعمال إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
محكمة العدل الدولية
في نهاية ديسمبر من العام الماضي 2023، أقامت جنوب أفريقيا إجراءات في محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل، متهمة إياها بانتهاك اتفاقية الإبادة الجماعية. طلبت جنوب أفريقيا من المحكمة النظر بعدد كبير من «التدابير المؤقتة» قبل الفصل في القضية، بما في ذلك أمر إسرائيل «بتعليق عملياتها العسكرية في غزة على الفور» .
تستمد محكمة العدل الدولية سلطتها من مثياق الامم المتحدة، تنص المادة 92 / الفصل الرابع عشر من الميثاق، “تكون محكمة العدل الدولية الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة. وتعمل وفقا للنظام الأساسي للامم المتحدة، الذي…يشكل جزءا لا يتجزأ من الميثاق “. بعبارة اخرى، محكمة العدل الدولية هي أعلى محكمة في الأمم المتحدة، أحكامها ملزمة قانونًا نظريًا لأطراف محكمة العدل الدولية – والتي تشمل إسرائيل وجنوب أفريقيا . وتستمد سلطة محكمة العدل الدولية في فرض تدابير مؤقتة من المادة 41 الواردة في الفصل الثالث من النظام الأساسي للمحكمة والتي تنص على ” للمحكمة سلطة أن تبين، إذا رأت أن الظروف تقتضي ذلك، أي تدابير مؤقتة ينبغي اتخاذها للحفاظ على حقوق كل من الطرفين”. “وريثما يتخذ القرار النهائي، يبلَّغ الطرفان ومجلس الأمن على الفور بالتدابير المقترحة” . وفي حال امتناع الدولة المشتكى عليها عن تنفيذ قرارات المحكمة، فإن من صلاحيات مجلس الامن الدولي اتخاذ الاجراءات المضادة بحقها، وفقًا للمادة 41 من الفصل السابع لميثاق الامم المتحدة، والتي تنص على انه “يجوز لمجلس الأمن أن يقرر التدابير التي لا تنطوي على استخدام القوة المسلحة التي ينبغي استخدامها لتنفيذ قراراته”… بما يشمل “القطع الكامل أو الجزئي للعلاقات الاقتصادية والسكك الحديدية والبحر والجو والبريد والبرق والإذاعة ووسائل الاتصال الأخرى، وقطع العلاقات الدبلوماسية. “
إن ما يجري الآن في فلسطين من عدوان وحرب انتقامية شاملة تشنها إسرائيل منذ 7 اكتوبر 2023، يحدث في سياق سياسات الاستعمار والاحتلال والفصل العنصري الذي اسسته اسرائيل منذ العام 1948، وهي سياسات غير قانونية وتتعارض واحكام القانون الدولي وقرارات الامم المتحدة ومجلس الامن. فإسرائيل قوة استعمارية والفلسطينيون هم السكان الأصليون الواقعون تحت الاحتلال. وأن أي إشارة إلى القانون الدولي لا تذكر هذه الظروف هي تشويه للقصة وتبرير لجرائم اسرائيل في حربها العدوانية على قطاع غزة وعموم اراضي فلسطين.
وفي سياق سياسات التضليل المكشوفة، تعمد اسرائيل على تاطير عدوانها انطلاقًا من تفسيرها المائل للمادة 51 من ميثاق الامم المتحدة بإسم “حق الدفاع عن النفس” والتي تنص على ” ليس في هذا الميثاق ما ينال من الحق الأصيل في الدفاع الفردي أو الجماعي عن النفس إذا وقع هجوم مسلح ضد عضو في الأمم المتحدة” . لكنها تتغافل ان هذه المادة لا يمكن استحضارها عندما ينبثق التهديد من ارض محتلة . في الوقت نفسه، تتجاهل اسرائيل العديد من النصوص في ميثاق الامم المتحدة بما يشمل المادة الاولى- المبادئ والمقاصد التي انشأت من اجلها الامم المتحدة فقرة ( 1 & 2) والتي تنص (فقرة 2) بوضوح على ان ” تنمية العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام مبدأ المساواة في الحقوق وتقرير المصير للشعوب، واتخاذ التدابير المناسبة الأخرى لتعزيز السلام العالمي “، “وحق تقرير المصير للشعوب” وفقا لاحكام المادة 55 من الميثاق. وتتغافل إسرائيل ايضًا البروتوكول الإضافي لاتفاقيات جنيف المؤرخة 12 آب/أغسطس 1949، والمتعلق بحماية ضحايا المنازعات المسلحة الدولية (البروتوكول الأول)، 8 حزيران/يونيو 1977. بما فيها السكان المدنيين، منظمات الدفاع المدني، إجراءات الاغاثة والمعاملة الانسانية. “
وفقًا للقانون الدولي فإن اسرائيل ما زالت تحتل قطاع غزة رغم انسحابها منه نظريًا عام 2005، ولا تستطيع الأخيرة أن تدعي الدفاع عن النفس كسبب مشروع لعدوانها على تهديد ينبع من داخل أرض تسيطر عليها سيطرة فعلية . ومن المفارقات أن إسرائيل، ومن خلال اختيارها التجاهل الصارخ لامتثال القانون الدولي المتعلق باستخدام القوة (وقانون تقرير المصير) عبر استمرار احتلالها لاراض دولة فلسطين، وضعت نفسها في موقف لا تستطيع فيه، ولا يحق لها، الاستفادة من إطار القانون الدولي الذي يسمح للدول بالتصدي لأشكال معينة من التهديدات .
تاريخيًا، دعمت عشرات القرارات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة حركات التحرر الوطني في كفاحها من أجل الاستقلال وتقرير المصير، بما في ذلك الكفاح المسلح. على سبيل المثال، جاء في القرار 2787 لعام 1971 أن الجمعية العامة “تؤكد شرعية كفاح الشعوب من أجل تقرير المصير والتحرر من الهيمنة الاستعمارية والأجنبية والقهر الأجنبي، ولا سيما في الجنوب الأفريقي، على وجه التحديد كفاح شعوب زمبابوي وناميبيا وأنغولا وموزامبيق وغينيا [بيساو]، وكذلك الشعب الفلسطيني بجميع الوسائل المتاحة بما يتسق مع ميثاق الأمم المتحدة» . وينص القرار العرفي إعلان العلاقات الودية (القرار رقم 2625 لعام 1970)، على أنه “يجب على كل دولة الامتناع عن أي عمل قسري يحرم الشعوب من حقها في تقرير المصير والحرية والاستقلال”. وقد اعترفت الأمم المتحدة بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير . وفي وقت لاحق، أعيد تأكيد عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة أو الغزو في ثلاثة قرارات متعاقبة لمجلس الأمن 476 ، 480 و 1322 في عام1980 . بينما واصلت اسرائيل تجاهل جميع هذه القرارات.
تداعيات محاكمة إسرائيل
بغض النظر عن طبيعة القرار/رات الصادرة عن محكمة العدل الدولية، سواء اتهام اسرائيل بتنفيذ اعمال ابادة جماعية من عدمه او الطلب منها وقف إطلاق النار على قطاع غزة وعموم اراضي دولة فلسطين، فان ذلك يعني بالنسبة لاسرائيل شيئًا واحدًا هو، كارثة ستلحق بها على كافة المستويات، بما فيها نسف روايتها الزائفة التي عملت على نشرها منذ العام 1948. بالاضافة الى كسر الدرع الفولاذي المكسو بالقوة الأميركية الرافضة لتطبيق أي قرار على اسرائيل.
وفي سياق الحقيقة القائمة بان الولايات المتحدة هي مصدر القوة لحالة التمرد التي تعيشها اسرائيل على القانون الدولي، وليس قصور القانون او فشل الامم المتحدة او مؤسساتها القانونية بما فيها محكمة الجنايات الدولية ومحكمة العدل الدولية. فإن تداعيات محاكمة إسرائيل على المستوى الدولي تعتمد على عدة عوامل ومتغيرات، وقد يكون لها بعض التداعيات المحتملة، والتي يمكن تأطيرها في النقاط التالية:
التداعيات المحتملة
1. التأثير السياسي: إدانة إسرائيل في المحكمة الدولية من المفترض ان يؤدي إلى مزيد من التوترات السياسية والدبلوماسية في العلاقة بين إسرائيل ومعظم دول العالم، خاصة الدول التي تدعم القضية الفلسطينية وفي المقدمة منها الدول العربية. وهذا يشمل: تجميد و/او انهاء العلاقات الدبلوماسية وطرد السفراء الاسرائيليين وسحب السفراء المعتمدين لدى اسرائيل، الغاء اتفاقيات السلام، انهاء/ تجميد مسارات التطبيع مع الدول العربية والدول الصديقة للشعب الفلسطيني، بعبارة اخرى الغاء او تخفيض شكل العلاقات السياسية مع دولة الاحتلال.
2. التأثير القانوني: في حال إدانة إسرائيل في المحكمة الدولية، قد يؤدي ذلك إلى إعادة الهيبة المفقودة للقانون الدولي وقرارات مجلس الامن وهيئات الامم المتحدة ومؤسسات ومجالس حقوق الانسان…، التي بات يُنظر اليها على انها رهينة ومختطفة في يد القوى الغربية وخاصة الولايات المتحدة، والتي تتعامل بازدواجية علنية في تطبيق المعايير والقوانين الدولية. وهذا يمهد الطريق لاعادة النظر في قبول عضوية اسرائيل المشروطة في الامم المتحدة بـــ “عدم اعاقة او منع قيام دولة فلسطين وفق قرار التقسيم (181) والقرار (194) حق عودة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم”، وبالتالي يصبح تجميد عضوية اسرائيل في الامم المتحدة باعتبارها دولة مارقة على القانون الدولي مطلب اممي قانوني.
بعبارة اخرى، مبررات قبول اسرائيل كعضو في الامم المتحدة اصبحت لاغية لمخالفتها الصريحه للشرط المقرون وهو عدم منع قيام دولة فلسطين على حدو الرابع من حزيران 1967.
3. التأثير الاقتصادي: قد يكون لمحاكمة إسرائيل تبعات اقتصادية ومالية عليها. بما يشمل: الحجز على اصول اسرائيل، وقف التبادلات التجارية، فرض نظام عقوبات اقتصادية، وقف الانشطة السياحية، إنهاء العقود التجارية، وربط اعادة إعمار غزة باصول اسرائيل عبر العالم على غرار روسيا واكرانيا، مع التاكيد على ضرورة جبر الضرر المادي والعنوي الذي الحقته إسرائيل بموارد واصول الشعب الفلسطيني.
4. التأثير على الرأي العام العالمي: سواء تمت إدانة اسرائيل في المحكمة كدولة ابادة جماعية من عدمه، فإن وعي الرأي العام العالمي بعدالة القضية الفلسطينية شهد ارتفاعًا ملحوظًا وزاد التأييد للحق الفلسطيني (إنقلاب شبه كامل في الرأي العام الدولي وخاصة الغربي). وفي حال تم البناء على هذه المواقف الجماهيرية، فإن من شأن ذلك ان يؤدي إلى زيادة الدعم للقضية الفلسطينية وتحويلها الى قضية انتخابية داخلية للاحزاب الراغبة للوصول الى مقاعد الاغلبية في البرلمانات في دول العالم في مقابل دعم اسرائيل. مع الحرص على تعزيز واستمرار التحركات النضالية والمظاهرات والمسيرات الاحتجاجية والندوات والمؤتمرات العلمية، فإن من شأن ذلك ان يشكل حزام ضغط على حكومات العالم المؤيدة لاسرائيل واجبارها على تجسيد الاعتراف بدولة فلسطين، وينسف الرواية الاسرائيلية القائمة على الزيف والتضليل.
5. ظهور توجه دولي ضاغط لترقية مكانة فلسطين الى دولة كاملة العضوية في الامم المتحدة.
المواقف الدولية: العوامل والمتغيرات
الاعتقاد السائد في اوساط القانونيين والمراقبين ان منطلقات قضاة محكمة العدل الدولية تستند في اتخاذ القرار بالدرجة الاولى على تحكيم الضمير الانساني، النزاهة والشفافية وتطبيق مبادئ القانون الدولي وفق ما تقدمه الدولة/الدول (المشتكي/ة) من وثائق، دلائل، قرائن وحجج قانونية تدين الطرف الاخر/المشتكى عليه، بعيدًا عن أي حسابات سياسية اخرى. ولكن،
بما ان كل قاضي في المحكمة الدولية هو بمثابة عضو منتدب يمثل بلاده في هذه المحكمة، فمن المتوقع ان الموقف السياسي لحكومة بلاده من الصراع الاسرائيلي-الفلسطيني سوف ينعكس على قراره. وهناك اكثر من موقف إنحاز فيها القاضي الى مواقف بلاده. او رفضت الدول/ة تنفيذ قرار محكمة العدل الدولية.
على سبيل المثال:
1. بتاريخ 16 اذار/مارس 2022، صوت قضاة المحكمة الدولية بأغلبية 13 صوتا لصالح الحكم مقابل اثنين، حيث اعترض كل من نائب رئيس المحكمة، الروسي كيريل جيفورجيان، والقاضية الصينية شيويه هانكين، ضد الحكم الذي طالب روسيا بأن “تعلق، فورا، العمليات العسكرية التي بدأت في 24 شباط/ فبراير في اوكرانيا” .
2. في قضية رفعتها نيكاراغوا ضد الولايات المتحدة عام 1984 للمطالبة بتعويضات عن الدعم الأميركي لمتمردي الكونترا ونشر ألغام مائية في مياه نيكاراغوا الإقليمية. حكمت محكمة العدل الدولية لصالح نيكاراغوا، لكن الولايات المتحدة رفضت منذ البداية المشاركة في الجلسات بدعوى عدم اختصاص المحكمة، ورفضت قبول الحكم. ، لاحقًا رفعت نيكاراغوا الأمر إلى مجلس الأمن، حيث استخدمت واشنطن حق النقض «الفيتو» ضد مشروع القرار
3. في عام 2016، رفضت الصين قرار محكمة التحكيم (غرفة خاصة بمحكمة العدل الدولية) في لاهاي، بعدم ملكيتها حقًا تاريخيًا في مياه بحر الصين الجنوبي وأنها انتهكت حقوق الفلبين السيادية بأعمالها على جزر سبراتلي المتنازع عليها .
4. اصدرت محكمة العدل الدولية فتوى قانونية بتاريخ 9 تموز/يوليو 2004 تنص على أن الجدار الذي انشأته اسرائيل هو غير شرعي ويجب أن يتم تفكيكه وطالبت بالتعويض للفلسطينيين الذي تضرروا من الجدار، غير أن إسرائيل لم تلتزم بالقرار وواصلت بناء الجدار .
ومع انطلاق جلسات المحكمة الدولية يومي 11و12 كانون الثاني/ يناير 2024، اعلنت الدول العربية والاسلامية وغالبية الدول الافريقية واللاتينية خاصة البرازيل، تأييدها ودعمها لدعوى جنوب افريقيا ضد إسرائيل. في أوروبا، فقط تركيا أعلنت دعمها العلني . بالمقابل، لم تعلن أي دولة غربية دعمها لقضية جنوب أفريقيا. وقد رفضتها الولايات المتحدة، “باعتبارها لا أساس لها من الصحة”، ووصفتها المملكة المتحدة بأنها “غير مبررة”، وقالت ألمانيا إنها “ترفضها صراحة”، وسوف تنضم للدفاع عن اسرائيل . واكتفى الاتحاد الأوروبي بالقول إن للدول الحق في رفع قضايا إلى محكمة العدل الدولية، دون إظهار موقف واضح من معظم الدول الأعضاء في الاتحاد. بينما احجمت الصين وروسيا عن الحديث كثيرًا حول القضية وبقيت شبه صامته . وكذلك فعلت الهند.
التوازن الجغرافي لاعضاء المحكمة الدولية
تتألف المحكمة من 15 قاضيا تنتخبهم الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن لمدة تسع سنوات. وتُجرى الانتخابات كل ثلاث سنوات لشغل ثلث المقاعد، ويجوز إعادة انتخاب القضاة المتقاعدين. لا يمثل الأعضاء حكوماتهم ولكنهم قضاة مستقلون، ولا يوجد في المحكمة سوى قاض واحد من كل جنسية . تسعى محكمة العدل الدولية إلى مراعاة التوازن الجغرافي في طريقة تعيين وانتخاب القضاة. لذا يحتل القضاة الأفارقة 3 مقاعد. وأميركا اللاتينية وبحر الكاريبي مقعدان. فيما تكون 3 مقاعد أخرى من نصيب منطقة آسيا و5 مقاعد لقضاة من الدول الغربية و2 لقضاة من أوروبا الشرقية مع العلم أن لكل الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن (الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا والصين وروسيا) قاض لها في هذه الهيئة .
وتتشكل هيئة المحكمة من القضاة:
رئيسة المحكمة جوان دونوغ – أميركيا
نائب الرئيس كيريل جيفورجيان – روسيا
القاضي بيتر تومكا – سلوفاكيا
القاضي روني أبراهام- فرنسا
القاضي محمد بنونة- المغرب
القاضي عبد القوي أحمد يوسف- الصومال
القاضية شيويه هانكين- الصين
القاضية جوليا سيبوتيندي- اوغندا
القاضي باتريك ليبتون روبنسون- جامايكا
القاضي دالفير بهانداري- الهند
القاضي إيواساوا يوجي- اليابان
القاضي نواف سلام- لبنان
القاضية هيلاري تشارلزورث- استراليا
القاضي جورج نولتي- المانيا
القاضي ليوناردو نمر كالديرا برانت- البرازيل
عند النظر في المواقف السياسية المُسبقة من الصراع الاسرائيلي الفلسطيني للدول التي يمثلها قضاة المحكمة فإننا نلاحظ:
أولًا: المواقف المحسومة مسبقًا لصالح اسرائيل هي: (أميركا، المانيا، استراليا، فرنسا، اوغندا، اليابان).
ثانيًا: مواقف الدول التي تدعم شكوى جنوب افريقيا “الحق الفلسطيني” هي: (المغرب، الصومال، لبنان، البرازيل، روسيا والصين).
روسيا والصين
الصين: نعتقد ان تصويت القاضي الصيني في محكمة العدل الدولية لصالح شكوى جنوب افريقيا امر وارد جدًا بالنظر الى طموحات الصين في منافسة واشنطن على النفوذ في منطقة الشرق الاوسط وخاصة اعتباره مصدر للطاقة موثوق في العلاقة مع بكين، وحرصًا من بكين على تثبيت علاقة اكثر موثوقية من التحالف مع واشنطن في المنطقة. بالاضافة الى، حرصها على افشال مشروع الهند التجاري الذي اعلنه الرئيس بايدن لمنافسة مبادرة الحزام والطريق الصينية عبر شق قناة بنجيريون كبديل لقناة السويس.
روسيا: لا يوجد خيارات امام القاضي الروسي الا باتخاذ موقف لصالح الدعوى ضد اسرائيل. لعدة اسباب، من بين امور اخرى، سعي موسكو لانهاء الاحتكار الأميركي المطلق والقائم على القوة والهيمنة العسكرية في العالم ومنطقة الشرق الاوسط، تعميق الثقة في الموقف الروسي في اوساط دول الشرق الاوسط التي اصبحت محور المنافسة بين الدول العظمى. المحافظة على موضع قدم لموسكو في الشرق الاوسط وباقي دول الجنوب العالمي.
ثالثًا: الدول غير المحسومة
1. جامايكا، سارعت الى إدانة هجمات 7 اكتوبر، بالمقابل ادانت القوة المفرطة لاسرائيل في قتل المدنيين، وموقفها السياسي الخارجي ثابت ويدعو الى حل الدولتين على اساس القانون الدولي على غرار الموقف التقليدي لدول الكاريبي. لكن ممثلها في الامم المتحدة تغيب عن جلسة التصويت للأمم المتحدة المنعقدة بتاريخ 1 تشرين الثاني/نوفمبر2023. التي دعت فيها إلى «هدنة إنسانية» في الحرب على غزة.
بالنظر لمصالحها المرتبطة مع واشنطن واسرائيل، لا يمكن ضمان تصويت القاضي باتريك روبنسون لصالح قرار إدانة اسرائيل، واعتقد انها سوف تفضل البقاء في منتصف المسافة.
2. الهند، ظهر تحول في موقف الهند في عهد الرئيس الشعبوي ناريندرا مودي تجاه الدعم التقليدي للقضية الفلسطينية الذي كانت تقدمه الهند على مدى العقود الماضية. وبينما أدانت الهند بشدة هجوم حماس في 7 أكتوبر وأعربت عن تضامنها مع إسرائيل، الا انها حثت على التمسك بالقانون الإنساني الدولي في غزة وسط ارتفاع اعداد الشهداء والجرحى في اوساط المدنيين.
خلال مرافعة الوفد الاسرائيلي امام محكمة العدل الدولية، اعتمد محاموا إسرائيل على تغطية تلفزيون الهند، نقلت إسرائيل عن تقرير لقناة India Today TV حول مكالمة هاتفية لشخص من حماس سُمع فيها وهو يتفاخر بـ “قتل 10 من اليهود” وفقًا تقرير القناة الهندية . بالاضافة الى ذلك، سبق وان امتنعت الهند عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار طلب من محكمة العدل الدولية إبداء رأيها في العواقب القانونية لـ «الاحتلال المطول» الإسرائيلي وضم الأراضي الفلسطينية
القضية الاهم والتي قد تؤثر على موقف القاضي الهندي في محكمة العدل الدولية هي اعلان بايدن اقامة طريق الهند التجاري الذي يربط الهند- الشرق الاوسط مرورا باسرائيل ثم الى اوروبا. حيث تنظر الهند الى هذا المشروع من منظر اقتصادي موازي لمبادرة الحزام والطريق -طريق الحرير التجاري الصيني.
الموقف المتوقع: نأمل ان تصوت الهند لصالح السلام والاستقرار في الشرق الاوسط وكسر احتكار القانو الدولي في يد النخب السياسية الغربية حصرًا.
3. سلوفاكيا: امتنعت عن التصويت على مشرور قرار دعت اليه الامم المتحدة بتاريخ 13/12/2023 يقضي بوقف العدوان على قطاع غزة. والذي حصل على دعم 153 دولة. وهو نفس الموقف الذي اتخذته اثناء التصويت على مشروع قرار سابق قدمته المجموعة العربية يدعو الى هدنة انسانية في قطاع غزة بتاريخ 27/10/2023 . بالمقابل، رحبت وزارة الخارجية السلوفاكية بالتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار مؤقت. ولكنها طالبت في بيانها بإطلاق سراح جميع الرهائن على الفور.
الموقف المتوقع: عدم التصويت لصالح القرار الاستنتاجات
من المتوقع ان تمارس واشنطن وحلفائها في الغرب كل اساليب الضغط والابتزاز السياسي ضد الدول الاعضاء في المحكمة الدولية لثني القضاة عن التصويت لادانة اسرائيل بارتكابها اعمل ابادة جماعية بحق الفلسطينيين. بالنظر لمكانة اسرائيل بالنسبة لواشنطن باعتبارها اصل استراتيجي للمصالح الأميركية في المنطقة، وان الادانة في حال وقوعها سوف تنسحب على رعاة الحرب على الشعب الفلسطيني، وهذا ما لا تفضله واشنطن.
في حال عجزت واشنطن في التاثير على قرار قضاة المحكمة الدولية، فمن المتوقع الدخول في مفاوضات لابرام صفقة تفضي الى تجاوز تهمة “الابادة الجماعية” والاكتفاء بالطلب من اسرائيل وقف العدوان. مع التعهد بعدم استخدام حق النقض “الفيتو”، سوف تسمح واشنطن لمجلس الامن باصدار قرار يطلب من إسرائيل السماح بزيادة إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة وإقامة لجنة تحقيق مستقلة و/أو السماح بعودة النازحين إلى شمال القطاع.
في حال فشلت واشنطن في ابرام صفقة، وحصول جنوب افريقيا على ثمانية اصوات من القضاة لضمان ادانة اسرائيل. فلا خيارات امام اسرائيل الا التنفيذ، وبعكس ذلك، ستقوم محكمة العدل الدولية بموجب المادة 41 (2) من النظام الأساسي للمحكمة، بإرسال أمر المحكمة بالتدابير المؤقتة إلى مجلس الأمن الدولي لتنفيذ القرار، وهنا متوقع ان يكون الفيتو الأميركي حاضرًا.
في الوقت الذي يرفض فيه 72 عضوًا من اعضاء مجلس الشيوخ الأميركي الطلب الذي قدمه السيناتور بيرني ساندرز للتحقيق في انتهاكات محتملة تقوم فيها اسرائيل والنظر في طبيعة استخدام المساعدات التي تقدمها واشنطن لاسرائيل. ينظر العالم الحر وابناء الشعب الفلسطيني الى قرار قضاة محكمة العدل الدولية باعتباره الاختبار الاخير لحقيقة وجود القانون الدولي من عدمه في هذا العالم، ومدى قدرة غالبية دول العالم على كسر الاحتكار الأميركي الغربي لانفاذ القانون الدولي وتطبيق العدالة على الجميع. وفي حال فشل القضاة باتخاذ قرار يلزم اسرائيل بوقف العدوان على الشعب الفلسطيني، فإن بقاء الامم المتحدة ومؤسساتها وقوانينها على قيد الحياة سيصبح مثارًا اخرًا للتساؤل.