هناكَ عددٌ من الدوافعِ المُتأصّلة في الثقافة السياسية الأميركية تَجعَلُ الولايات المتحدة أكثر رغبةً في البقاء مُنعَزِلةً بعيدةً من الاضطرابات التي غالبًا ما تجتاح العالم الأوسع. سواءَ كانَ إعلانُ الرئيس توماس جيفرسون خلال خطاب تنصيبه الأوّل في العام 1801 أنَّ الولايات المتحدة يجب أن تسعى إلى “الصداقةِ الصادِقة مع جميعِ الدول، وعَدَمِ عَقدِ تحالفاتٍ مع أيٍّ منها”، أو ادّعاءُ الرئيس السابق دونالد ترامب في حَفلِ تنصيبه في العام 2017 بأنَّ “العلاقات ستكون فقط” مَبنيةً على “أميركا أوّلًا”، كانت الرغبةُ في الانسحاب من الشؤون العالمية والتركيزِ بشكلٍ كاملٍ على الأولويّات المحلّية كامنةً دائمًا تحت سطح السياسة الأميركية. ومع احتمالِ ظهورِ حقبةٍ أُخرى من انسحابِ أميركا من تطلّعاتها وطموحاتها لكي تبقى “الدولة التي لا غنى عنها” في العالم والتي تلوحُ في الأفق الآن، يحتاجُ حلفاءُ واشنطن في أوروبا إلى الاستعدادِ لذلك.
إن استعدادَ المُشَرّعين الجمهوريين الانعزاليين في الكونغرس لإضعافِ قدرةِ الرئيس جو بايدن على مساعدة أوكرانيا في صراعها ضد الغزو الروسي، دَفَعَ الأوروبيين إلى التدافع للتفكير في مستقبل العلاقات الأمنية مع الولايات المتحدة ولاستبدالِ المساعدة العسكرية من واشنطن التي اعتبروها أمرًا مفروغًا منه حتى أواخر أيلول (سبتمبر) 2023. مع ذلك، حتى حلول هذه الصدمة المُفاجئة التي أحدثها الشللُ السياسي الذي أصاب واشنطن، كان صنّاعُ السياسة الأوروبيون أمضوا العقدّين الفائتَين في حالةٍ من الإنكار رُغمَ الإشارات المُتزايدة التي تُشيرُ إلى أنَّ الرغبة في الحفاظ على نظامِ التحالفات العالمي لواشنطن قد بدأت تتذبذب بين قسمٍ كبيرٍ من الطبقة السياسية الأميركية.
الشكوكُ المُتزايدة داخل المجتمع الأميركي حولَ الجُهدِ الاستراتيجي اللازم للبقاء قوّة عالمية بدت واضحةً بالفعل عندما كانت هَيمَنةُ واشنطن في ذروتها في التسعينيات الفائتة. شَكّلَ خطابُ المرشّح الرئاسي “بات بوكانان” الانعزالي، بين العديد من المحافظين الأميركيين، خلال حملته الإنتخابية التمهيدية عن الحزب الجمهوري ضد الرئيس آنذاك جورج بوش (الأب) في العام 1992، صدى مواضيع استغلّها ترامب خلال استيلائه الناجح على الحزب بعد حوالي 30 عامًا. إنَّ السرعةَ التي تحوّلت بها ادعاءاتُ ترامب بأنَّ الحلفاءَ يستغلّون كَرَمَ الولايات المتحدة إلى حكمةٍ تقليدية بين الجمهوريين هي مؤشّرٌ إلى مدى تجذّرِ المشاعر الانعزالية فعليًا داخل اليمين السياسي الأميركي.
لكن بعد أن أدّت الهجمات الإرهابية في 11 أيلول (سبتمبر) 2001 إلى استنزافِ التدخّلات العسكرية في أفغانستان والعراق والتي بدأها الرئيس آنذاك جورج بوش (الإبن)، ظهرَ نقدٌ أكثر مَنهَجِيةً للسياسة الخارجية الأميركية بين المُثَقَّفين السياسيين الأقرب إلى الحزب الديموقراطي والذين سُمِّيوا ب”المُقَيِّدين”. على الرُغمِ من أنَّ هؤلاء يدعمون استمرارَ التدخّلِ في المناطق التي يعتبرونها ذات أهمّيةٍ مركزيةٍ للمصالح الوطنية الأميركية، إلّا أنهم يدفعون نحو إجراءِ تخفيضٍ كبير في التزامات واشنطن العسكرية العالمية، بسببِ المخاوفِ من التجاوزات الاستراتيجية بالإضافة إلى مَيلِ الكثيرين إلى تصويرِ الدور العالمي للولايات المتحدة على أنهُ العاملُ الأساس في تأجيجِ التوتّرات الجيوسياسية. لم يلعب “المُقَيِّدون” الذين طالبوا بتخفيضٍ جذري للوجود العسكري الأميركي في أوروبا والشرق الأوسط وأجزاءٍ من منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، دورًا رئيسًا في إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، كما إنهم ليسوا بارزين في إدارة بايدن. لكن تأثيرهم في نقاشِ السياسة الخارجية داخل الحزب الديموقراطي عزّزَ قدرًا أكبر من الشكوك حتى بين أعضاءِ مجلسَي الشيوخ والنواب الوَسَطيين تجاه التورّطِ في صراعاتٍ خارج حدود الولايات المتحدة.
وحتّى عندما وَجَدَ أوباما وترامب نفسيهما مُتَوَرِّطَين في ما يُسَمّى بالحروب الأبدية، فإنَّ افتقارهما إلى الحماس بشأنِ العمليات في سوريا وليبيا والعراق وأفغانستان –عند مقارنتهما بالغرائز الأكثر تشدّدًا لدى هيلاري كلينتون أو ميت رومني، على سبيل المثال– كان بمثابةِ إشارةٍ إلى تأثيرِ هذه الآراء المُتشَكِّكة حول تورّط أميركا في الحروب البعيدة التي روّجَ لها “المُقَيِّدون” والانعزاليون في “ماغا” (جماعة ترامب المتشدّدة في الحزب الجمهوري) على المُناقشات السياسية على المستويات العليا في الحكومة. لقد عملَ مسؤولو إدارة أوباما على إبرازِ صورةِ الشراكة الودّية عند التعامل مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. لكن تعبيرهم العرضي عن الإحباط الصريح بشأن ما كان يُنظَرُ إليه على نطاقٍ واسع في واشنطن على أنهُ استفادةٌ أوروبية مجّانية من الموارد العسكرية الأميركية كان نذيرًا بالبهجة “الشريرة” التي هدّد بها ترامب بتخريبِ تحالف ال”ناتو” إذا لم تقم الدول الأوروبية بزيادة إنفاقها الدفاعي. على الرُغمِ من كلِّ الاختلافات بين عداءِ أوباما لموسكو بعدَ ضمِّ شبه جزيرة القرم في العام 2014 وإعجاب ترامب الصريح بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإنَّ الاستجابةَ الحذرة من كليهما تجاه طلبات أوكرانيا للحصول على المساعدة العسكرية تعكسُ الحذرَ الأوسع في واشنطن بشأنِ المَزيدِ من التورّطِ في الصراعات الخارجية.
أدّت المخاوف المتزايدة بين كلٍّ من الديموقراطيين والجمهوريين في واشنطن بشأنِ طموحات بكين الجيوسياسية إلى تعزيزِ المخاوفِ بشأنِ التجاوزات الاستراتيجية التي تُعتَبَرُ أساسيّةً في أجندة “المُقَيِّدين” وكذلك الانعزاليين في “ماغا”. إنَّ الحاجة إلى تركيزِ كلِّ الموارد على مواجهةِ صعودِ الصين تُستَخدَمُ لتبريرِ الدعوات للانسحاب من مناطق عالمية أخرى استعدادًا لصدامٍ نهائي حول الهيمنة على منطقة المُحيطَين الهندي والهادئ. ولا تزال هناك غالبية من الحزبَين الجمهوري والديموقراطي في الكونغرس تؤيّدُ دعم أوكرانيا وحلف شمال الأطلسي في الوقت الحالي. لكنَّ العددَ المُتزايد من المُشرِّعين اليمينيين المُعادين لأيِّ مساعداتٍ إضافية، إلى جانبِ الشكوكِ المتزايدة لدى اليسار (في الحزب الديموقراطي) في أنَّ مشاركة الولايات المتحدة في المنافسات الجيوسياسية يُمكِنُ أن تُوَلِّدَ نتائج إيجابية، هي مؤشّرات إلى اتجاهاتٍ طويلة المدى يُمكِنُ أن تُقلّلَ من إرادة واشنطن في الحفاظ على دورها العالمي الحالي.
في هذا السياق، فإنَّ المساعدةَ العسكرية الحاسمة التي قدّمتها إدارة بايدن لأوكرانيا في العامين 2022 و2023 تبدو أقل شَبَهًا بإعادة تنشيط التحالفات التقليدية وأكثر شَبَهًا بالهبّة الأخيرة للشراكة الطويلة الأمد عبر الأطلسي. لا يزال بايدن البالغ من العمر 81 عامًا مُتَجذّرًا في عقلية حقبة الحرب الباردة التي كانت فيها التزاماتُ الولايات المتحدة تجاه الأمن الأوروبي ترتكزُ على إجماعٍ قوي بين الحزبين. ومع ذلك، حتى لو هَزَمَ ترامب في الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني (نوفمبر)، فبمجرّدِ رحيلِ بايدن في نهاية المطاف عن المشهد السياسي، فمن المرجح أن يظلَّ جيلٌ جديدٌ من القادة في وَسط ويسار السياسة الأميركية أكثر عرضةً لحججِ “المُقيِّدين” لصالحِ تَقليصِ تَعَرُّضِ الولايات المتحدة للأزمات في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا من أجل التركيز على التنافس مع الصين في منطقة المُحيطَين الهندي والهادئ.
أجبرَ الشللُ التشريعي الحالي في واشنطن، الذي يمنع المساعدات الإضافية لكييف، صنّاعَ السياسات في الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة على تسريعِ الجهودِ لتحقيقِ الاعتمادِ على الذات عسكريًا. ومع ذلك، فإنَّ هذا التدافُعَ قصير المدى نحو الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي هو إلى حدٍّ كبير ردُّ فعلٍ على الأحداث في واشنطن وليس نتاجَ استراتيجيةٍ طويلةِ المدى لإدارةِ ظهورٍ مُحتَمَلٍ لنظامٍ أمني ما بعد أميركا لأوروبا والعالم. ونظرًا للزخم المُطالِب بانسحاب الولايات المتحدة من دورها العالمي الحالي المُستَشري لدى كلٍّ من اليسار المُقَيِّد و”ماغا” على اليمين، يحتاج صنّاع السياسات الأوروبيون إلى تطويرِ نهجٍ أكثر شمولًا تجاه إدارة انسحاب واشنطن المُحتَمَل من أوروبا وجوارها بطُرُقٍ يُمكِنُ أن تتجنّبَ المزيدَ من زعزعةِ الاستقرار.
يَعكُسُ الاندفاعُ المُفاجئ، لزيادةِ إنتاجِ الأسلحة وتطويرِ هياكل أمنية أوروبية أكثر تماسُكًا، إدراكًا بأنَّ إدارة ترامب الثانية يُمكِنُ أن تُنهي فجأةً التحالفات الأميركية. لكن يتعيّن على صنّاع السياسات في الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة تمهيد الطريق لانتقالٍ أكثر تدريجًا من خلال مفاوضاتٍ بنّاءة مع واشنطن. عندَ التعامُلِ مع الانعزاليين في “ماغا”، يمكنُ استخدام أشكالٍ مختلفة من النفوذ الاقتصادي وكذلك الإشارات الديبلوماسية في ما يتعلق بطموحاتِ بكين كأوراقِ مساومة لتشجيع ترامب على قبولِ انسحابٍ مُنظَّم من خلال محادثاتٍ بنّاءة بدلًا من مواقف المواجهة. في سيناريو تتمُّ فيه هزيمة ترامب وإعادة تقييم الوسطيين في مرحلة ما بعد بايدن لأُسُسِ السياسة الخارجية للولايات المتحدة، يمكن للاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة اختبار مدى جدّية “المُقَيِّدين” المُقرَّبين من الحزب الديموقراطي في بناءِ بُنيةٍ أمنية عالمية مُستدامة من خلالِ اقتراحِ علاقةٍ يتمُّ إعادة التفاوض عليها بين الولايات المتحدة وأوروبا مَبنيةً على أساسِ عَمَلٍ ملموسٍ لاستعادةِ القوّة العسكريّة الأوروبية.
عادةً ما تُقَدِّمُ المناقشات الأميركية التي يقودها “المُقَيِّدون” أو الانعزاليون قائمةً واسعةً من الأسبابِ التي تدفَعُ واشنطن إلى خَفضِ أو إنهاءِ التزاماتها الأمنية العالمية. لكنها في كثيرٍ من الأحيان تُصبحُ غامضةً إلى حدٍّ ما عندما يتعلّقُ الأمرُ بتحديدِ الكيفيّةِ التي ينبغي بها هيكلة نهج السياسة الخارجية الجديد القائم على التوازن الخارجي أو الانفصال المُنعَزِل في الممارسة العملية. من خلالِ تقديمِ خطّةِ عملٍ ملموسة لنوعٍ مُختَلفٍ من العلاقة بين أوروبا الأكثر اعتمادًا على الذات والولايات المتحدة الأقل مشاركة، فإنَّ صُنّاعَ السياسات في الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة سوف يجبرون جيلًا جديدًا من قادة الحزبَين الديموقراطي والجمهوري في واشنطن على تطويرِ مُقترحاتٍ أكثر تماسُكًا من أجلِ نظامٍ أمنيٍّ جديدٍ في مرحلةِ ما بَعدَ أميركا.
لكن إعادة الهيكلة الأساسية لعلاقات الولايات المتحدة مع الحلفاء والشركاء ستعني أيضًا أنَّ صنّاعَ السياسة الأوروبيين والآسيويين الذين يتمتّعون بالاستقلال الاستراتيجي للدفاع عن مصالحهم سيكون لديهم حافزٌ أقل لأخذ آراء واشنطن في الاعتبار. ربما يظنُّ “المُقَيِّدون” والانعزاليون في واشنطن أنَّ بإمكانهم الحصول على كعكتهم وأكلها أيضًا من خلال الاحتفاظ بنفوذهم حتى بعد سحب الوجود العسكري، لكن رؤساء الولايات المتحدة في المستقبل قد يجدون أنفسهم يكافحون من أجل قبولِ نتائج عالمٍ يعملُ في ظلِّ نظامٍ أمني ما بعد أميركا. ومهما كان مدى رغبة المُحلّلين وصنّاع السياسات الأميركيين في التحرّرِ من أعباء الهيمنة العالمية من الناحية النظرية، فمن المرجح أن يكافحوا من أجلِ التصالُحِ مع ما يعنيه أن تكون أميركا دولة يُمكِنُ الاستغناء عنها في المُمارسة العملية.