الثورة الطلابية التي تقودها مجموعة التحالف من اجل فلسطين في الجامعات الأمريكية، والتي انطلقت شرارتها من جامعة كولومبيا العريقة إزدادت زخماً وامتدت لتشمل معظم الجامعات الأمريكية، من الساحل الى الساحل على الارض الأمريكية. واخذت تكتسب أهمية بالغة ليس فقط كونها تمثل مراكز ثقل وتواجد نخبة النخبة من الطلاب الأمريكيين، و/أو تعبيرها عن التغير الحاد في مزاج جيل الشباب الأمريكي القادم- اخر استطلاع رأي اجرته جامعة هارفارد أظهر 56% من المستطلعين من جيل الشباب تعاطفهم الكامل مع الفلسطينيين، بل في الشعارات الكبيرة التي يرددها المتظاهرون وخاصة شعار، Palestine is free from the river to the sea “فلسطين حرة من النهر إلى البحر”، والذي لم تتوقع الادارات الأمريكية المتعاقبة ان تسمعه يتردد على اراضيها حتى في اسوأ كوابيسهم.
وفي سياق ضبط البوصلة، حدد ثوار الجامعات الأمريكية مطالبهم في مسارين. المسار الاول، موجه نحو الادارة الأمريكية بضرورة (1) الضغط على اسرائيل لوقف العدوان ورفع الحصار عن قطاع غزة (2) وقف المساعدات الأمريكية لاسرائيل وخاصة تلك المتعلقة بالاستخدامات العسكرية، و (3) دعوة الشركات الأمريكية المرتطبة مباشرة بدعم الحرب على قطاع غزة بوقف انشطتها بما فيها المقاطعة وسحب الاستثمارات. المسار الثاني، (1) مطالبة إدارة الجامعات الامريكية بقطع كل اشكال التعاون الاكاديمي والبحثي والغاء العقود الاستثمارية مع الجامعات الاسرائيلية، و (2) التدخل الفوري للافراج عن زملائهم الطلاب المحتجزين لدى الشرطة الأمريكية ووكالات انفاذ القانون.
الزخم والتأييد الذي تكتسبه هذه المظاهرات وسرعة انتشارها، الى جانب الانقسام الحاد في المواقف والفجوة الاخذة بالاتساع في اعلى الهرم السياسي وخاصة في اوساط اعضاء الكونجرس الأمريكي، ضاعفت من الضغط على قادة الجامعات وأعضاء هيئة التدريس والمانحين والادارة الأمريكية المضطربين بشأن الخط الفاصل بين حرية التعبير وقوانين الحرم الجامعي ومعاداة السامية المزعومة. هذا الموقف الضاغط دفع اللوبي الاسرائيل لاستنفار ادواته ووكلاءه في الكونجرس لفرض السيطرة وإجهاض المطالب العادلة.
من ناحية، سارع اعضاء الكونجرس الأمريكي من انصار اسرائيل ومن كلا الحزبين الديموقراطي والجمهوري الى إدانة هذه الاحتجاجات واعتبارها شكلا من اشكال معاداة السامية وكراهية اليهود، يقول بايدن: “معاداة السامية الصارخة هذه مستهجنة وخطيرة – ولا مكان لها على الإطلاق في حرم الجامعات، أو في أي مكان في بلدنا”. ودعا رئيس مجلس النواب مايك جونسون بعد زيارته لجامعة كولومبيا لإدانة ما اسماه معاداة السامية وطالب المتظاهرين بالتوقف عن هذه النشاطات. من ناحية اخرى، ظهرت نشاطات لاعضاء الكونجرس الليبراليين من انصار الحق الفلسطيني في حرم الجامعات الأمريكية، وزارت عضو الكونجرس النائبة ألكساندريا كورتيز، والنائب جمال بومان، والنائبة الهان عمر حرم جامعة كولومبيا لاظهار الدعم لمطالب المتظاهرين.
مع انكسار حاجز الصوت الذي فرضته مجموعات الضغط الاسرائيلية داخل الحرم الجامعي ونجاحاتهم المتوالية منذ عقود في منع انتقاد اسرائيل وإظهار التضامن مع القضية الفلسطينية، يبدو ان قبضة اللوبي الاسرائيلي على الحرم الجامعي ومراقبته لما يتعلمه الطلاب وما يكتبه الاساتذة ويعلمونه لطلابهم بدت متجمدة وان الامور تخرج عن السيطرة. منذ سبتمبر 2002، أنشأ مارتن كرامر ودانييل بايبس، وهما من المحافظين الجدد المؤيدين بشدة لإسرائيل، موقعًا إلكترونيًا (Campus Watch) وظيفته تكميم الافواه واحباط أي نشاطات مؤيدة لفلسطين، الى جانب نشر ملفات عن أكاديميين وطلاب مشتبه بهم بدعم القضية الفلسطينية والصاق تهمة معاداة السامية بهم، ويشجع الطلاب على الإبلاغ عن أي ملاحظات أو سلوك قد يعتبر معاديًا لإسرائيل.
وعلى الرغم من ان المحرك الاساسي لثورة الجامعات هو إظهار التضامن الانساني والالتزام الاخلاقي من قبل الطلاب الأمريكيين مع ضحايا العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة، والدعوة العاجلة لمعالجة العار الكبير الذي يلحق بسمعة وقيم واشنطن بسبب مواقفها عبر العالم. الا ان المُشرع الأمريكي في الكونجرس والذي من المفترض انه يمثل صوت الناخبين، كان له موقفاً آخر بعيداً تماماً عن رأي جيل الشباب القادم.
تحت ضغط اللوبي الاسرائيلي، وفي أحدث خطوة من قبل كبار المشرعين المؤيدين لاسرائيل في مجلس النواب للرد على الاحتجاجات المتزايدة المناهضة لسياسات إسرائيل في حرم الجامعات. من المقرر أن يصوت مجلس النواب الأمريكي الأسبوع المقبل على ما يسمى “قانون التوعية بمعاداة السامية” من الحزبين، يقول النائب مايك لولر، الراعي الرئيسي لمشروع قانون معاداة السامية. “يسعدني أن أسمع أن قانون التوعية بمعاداة السامية سيطرح للتصويت الأسبوع المقبل. سيساعد هذا التشريع المهم في وضع حد لهذا الأمر مرة واحدة وإلى الأبد وضمان بقاء الجامعات آمنة للطلاب اليهود”.
وسط استقطاب حاد بين الحزبين الكبيرين للفوز ببطاقة الرئاسة الامريكية القادمة بتاريخ 5 نوفمبر 2024، يحاول الجمهوريون الاستفادة من حالة الغليان الشعبي في اوساط الناخبين الأمريكيين، وتوظيف الاحداث بقوة وذكاء في بوابة الفيضانات المحمولة داخل الحرم الجامعي لخوض المعركة الفاصلة مع الحزب الديموقراطي. عبر إنشاء مقارنة مع احداث عام 1968 الانتخابي المليء بالاحتجاجات. في ذلك العام، انفجرت جامعة كولومبيا احتجاجاً على استمرار الحرب الأمريكية في فيتنام واستمرار ثقافة التمييز العنصري في المجتمع الأمريكي، تخللها اعمال عنف ومواجهات مع دخول الشرطة الى حرم الجامعة واشتباكها مع المتظاهرين، أظهر الديموقراطيون إنقساما حاداً في المواقف، والنتيجة خسارة المرشح الديمقراطي جورج ماكغفرن الانتخابات الرئاسية أمام الرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون.
مع إعتقادنا ان ثورة الجامعات الأمريكية لن تنجح في قطع العلاقة الاستراتيجية الخاصة بين اسرائيل والولايات المتحدة، الا انها ترسل اشارات قوية تؤكد كسر حاجز الصمت الابدي، بالتزامن مع نضوج كامل للوعي وفهم السردية الحقيقية للصراع الاسرائيلي-الفلسطيني، هذا الفهم ادى الى تغير كبير في المزاج الشعبي لجيل الشباب الأمريكي القادم، تجاه طبيعة هذا الصراع وحجم الضرر العائد على واشنطن بسبب مواقفها الداعمة لاسرائيل. وعلى المدى القريب، ستفتح حركة الاحتجاجات مزيداً من الابواب المغلقة امام اصحاب المبادئ والقيم الديموقراطية والليبرالية الحقيقية التي يحملها الجيل الشاب عبر صناديق الانتخابات نحو مقاعد صنع القرار في الكونجرس الأمريكي بعيدا عن التمويل المالي المشروط الذي تمارسه جماعات الضغط الاسرائيلي.