إقتصادالاحدث

الثقافة التي تأكل الأزمة مع وجبة الفطور | بقلم البروفسور بيار الخوري

في ميدان فلسفة الإدارة، هناك قول شهير: “الثقافة تأكل الاستراتيجية مع وجبة الفطور”. هذا المثل يؤكد أهمية فهم ودمج الثقافات المحلية في أي مسعى للتغيير الاستراتيجي. لا مكان أفضل من لبنان لتجسيد ذلك، بلد يشتهر بتنوعه الثقافي الغني وبشغفه بثقافة الاستهلاك والتباهي. حتى وسط العاصفة المتواصلة من الأزمات التي ضربت البلاد منذ عام 2019، هذه السمة الثقافية بقيت قوية بشكل ملحوظ، ما أكسبها لقب: “الثقافة التي تأكل الأزمة مع وجبة الفطور”.
ضاعت الودائع المصرفية، وصل الانخفاض في الدخل إلى 60% مقارنة بدخول ما قبل الأزمة، لكن الميل للاستهلاك بقي محافظاً على وتيرته.
واحدة من السمات المميزة للثقافة اللبنانية هي التركيز على الاستهلاك الواضح والعرض الزائف، في الغالب، للثروة. من الأعراس الفخمة إلى ولائم الطعام الباذخة، لقد أتقن اللبنانيون فن العيش في اللحظة واستعراض ثرواتهم المتخيلة. هذه العقلية المركزة على الاستهلاك متأصلة بعمق في النسيج الاجتماعي، متغلغلة في كل جانب من جوانب الحياة، من التفاعلات الاجتماعية إلى المعاملات التجارية.
في لبنان، لا يُعتبر السعي وراء الترف والرموز الاجتماعية مجرد تلذذ سطحي ولكن واجب ثقافي متشعب يرتبط بشكل عميق بمفاهيم الهيبة والمكانة الاجتماعية. سواء كان الأمر متعلقاً بقيادة أحدث سيارة فاخرة (ولو مستأجرة ليوم واحد) أو تناول الطعام في أحدث المطاعم، يفخر اللبنانيون بالعرض المبالغ فيه في استعراض ثروتهم، وغالبًا ما يلجؤون إلى العديد من الطرق للحفاظ على المظاهر حتى في وجه الصعاب.
أزمة لبنان التي اجتاحت البلاد منذ عام 2019، متمثلة في الصراع السياسي المشل والانهيار الاقتصادي. الجائحة والانفجار المدمر في #مرفأ بيروت، جلبا معهما معاناة لا تحصى: ارتفاع الأسعار بصورة فاحشة، البطالة الواسعة النطاق، نقص في السلع الأساسية والأدوية، ما دفع كثيرين إلى الهجرة والملايين إلى اليأس.
على الرغم من هذه الظروف المؤلمة، فإن ثقافة الاستهلاك والتباهي في لبنان أظهرت مرونة ملحوظة، وتحدت الظروف وثابرت في وجه الصعوبات. بدلاً من الانسحاب إلى التقشف والاقتصاد، قام الكثيرون من اللبنانيين بزيادة مرات على أنماط حياتهم الباذخة، ويعتبرون الاستهلاك الواضح شكلاً من أشكال المقاومة ضد اليأس المتقدم.
تفسير الاستهلاك الواضح كشكل من أشكال المقاومة ضد اليأس يتطلب فهمًا عميقًا للديناميات الاجتماعية والنفسية التي تشكل الثقافة اللبنانية. يُظهر الاستهلاك الواضح، بمفهومه الأساسي، تحول العزف عن التقشف المفروض في ظل الأزمة إلى مظاهر ثقافية تعبيرية وحتى عملية. هناك عدة أسباب وراء هذه الظاهرة، تتعلق بالديناميات الاجتماعية والاقتصادية، وتأثيرها على الهوية الشخصية والجماعية للفرد اللبناني.
تسلط دراسات مختلفة الضوء على دور الاستهلاك الواضح في المجتمعات المتأثرة بالأزمات، وتشير إلى أن هذا النوع من الاستهلاك ليس مجرد تهور فاقد للتفكير، ولكن ينبغي فهمه كميزة ثقافية تعبّر عن مقاومة لليأس والضغوط النفسية. فاللجوء إلى الاستهلاك الواضح يمكن أن يكون رد فعل طبيعيًا للفرد في وجه الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المستمرة، حيث يشعر الفرد بالحاجة إلى تعزيز هويته ومكانته الاجتماعية المتدهورة.
من الناحية النفسية، يمكن أن يكون الاستهلاك الواضح وسيلة للتعامل مع مشاعر الضياع والعجز التي يمكن أن تنجم عن الأزمات الاقتصادية والسياسية. إذ يمكن للفرد أن يجد في استهلاك البضائع الفاخرة والتجارب الباذخة طريقة لتحقيق شعور بالسيطرة والقدرة على التحكم في الوضع، حتى وسط الظروف الصعبة.
علاوة على ذلك، يعكس الاستهلاك الواضح أيضًا التمسك بالهوية والقيم الثقافية، حيث يعتبر الفرد أنه من الضروري الحفاظ على مظهر الثراء والنجاح حتى في وجه الصعوبات. يتجسد هذا النوع من الاستهلاك كشكل من أشكال المقاومة ضد اليأس، إذ يُظهر الفرد استمراره في تأكيد هويته ومكانته الاجتماعية رغم التحديات المحيطة به.
باستنادنا إلى هذه الدراسات والتحاليل، نرى أن الاستهلاك الواضح في لبنان، على الرغم من الظروف القاسية التي تمر بها البلاد، ليس مجرد تجاوب عفوي مع الأزمة، بل يعكس أيضًا محاولة للحفاظ على الهوية الثقافية والاجتماعية والنفسية في وجه اليأس المتقدم.
في مجتمع حيث تعني المظاهر كثيرًا، يصبح الحفاظ على مظهر الثراء شكلًا من أشكال الدفاع النفسي.
نشر المقال في “النهار” أولاً.

د. بيار بولس الخوري ناشر الموقع

الدكتور بيار بولس الخوري أكاديمي وباحث ومتحدث بارز يتمتع بامكانات واسعة في مجالات الاقتصاد والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على سياسات الاقتصاد الكلي وإدارة التعليم العالي. يشغل حاليًا منصب عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا وأمين سر الجمعية الاقتصادية اللبنانية. عمل خبيرًا اقتصاديًا في عدد من البنوك المركزية العربية. تخصص في صناعة السياسات الاقتصادية والمالية في معهد صندوق النقد الدولي بواشنطن العاصمة، في برامج لصانعي السياسات في الدول الاعضاء. يشغل ايضا" مركز أستاذ زائر في تكنولوجيا البلوك تشين بجامعة داياناندا ساغار في الهند ومستشار أكاديمي في الأكاديمية البحرية الدولية. ألّف أربعة كتب نُشرت في الولايات المتحدة وألمانيا ولبنان، تناولت تحولات اقتصاد التعليم العالي وتحديات إدارته، منها كتاب "التعليم الإلكتروني في العالم العربي" و"التعليم الجامعي بموذج الشركنة". نشر أكثر من 40 بحثًا علميًا في دوريات محكمة دوليًا،. يُعد مرجعًا في قضايا مبادرة الحزام والطريق والشؤون الآسيوية، مع تركيز على تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. أسس موقع الملف الاستراتيجي المهتم بالتحليل الاقتصادي والسياسي وموقع بيروت يا بيروت المخصص للأدب والثقافة. أطلق بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة "بوديو"، ليناقش قضايا اجتماعية واقتصادية بطريقة مبسطة. شارك في تأليف سلسلتين بارزتين: "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط"، الذي يحلل التنافسات الجيوسياسية حول موارد البحر المتوسط، و"17 تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان"، وهي مجموعة دراسات ومقالات عميقة حول انتفاضة لبنان عام 2019، والمتوفرتان على منصة أمازون كيندل. لديه مئات المقابلات في وسائل إعلام محلية عربية وعالمية مقروءة ومتلفزة، حيث يناقش قضايا الاقتصاد اللبناني والأزمات الإقليمية والشؤون الدولية. يكتب مقالات رأي في منصات إلكترونية رائدة مثل اسواق العرب اللندنية كما في صحف النهار والجمهورية ونداء الوطن في لبنان. يُعتبر الخوري صوتًا مؤثرًا في النقاشات حول مسيرة اصلاح السياسات الكلية وسياسات محاربة الفساد والجريمة المنظمة في لبنان كما مسيرة النهوض بالتعليم والتعليم العالي وربطه باحتياجات سوق العمل. لديه خبرة واسعة في دمج تطبيقات تكنولوجيا البلوكتشين في عالم الاعمال ومن اوائل المدافعين عن الصلاحية الاخلاقية والاقتصادية لمفهوم العملات المشفرة ومستقبلها، حيث قدم سلسلة من ورش العمل والتدريبات في هذا المجال، بما في ذلك تدريب لوزارة الخارجية النيجيرية حول استخدام البلوك تشين في المساعدات الإنسانية وتدريب الشركات الرائدة في بانغالور عبر جامعة ساغار. كما يمتلك أكثر من 30 عامًا من الخبرة في التدريب وإدارة البرامج التدريبية لشركات ومؤسسات مرموقة مثل شركة نفط الكويت والمنظمة العربية لانتاج وتصدير النفط OAPEC. يجمع الخوري بين العمق الأكاديمي، فهم البنى الاجتماعية-الاقتصادية والاستشراف العملي، مما يجعله خبيرا" اقتصاديا" موثوقا" في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى