عرضان للاستقلال… تحت سقف واحد
يوم 22 تشرين الثاني 2019 لم يكن يوماً للسياسيين بل كان يوماً للشعب اللبناني بامتياز، كان يوم الايمان ببلد واحد موحد؛ من آخر حبة تراب على حدوده الشرقية الى آخر حبة رمل على شاطئ أجمل عاصمة على المتوسط، ومن أول نقطة ماء في نهر أبو علي الى آخر حفنة تراب من الجنوب الغالي. هذا اليوم شهد عرضان بمناسبة الاستقلال المجيد، في وطن واحد ولكن في ساحتان مختلفتان ومتباعدتان جغرافيا لا تشبهان بعضهما لا في الحضور ولا في الأهداف ولا في الرؤية ولا حتى في أي شيء.
العرض الأول ومقره وزارة الدفاع، مع ما نكن للجيش اللبناني من محبة وتقدير، كان عرضاً عسكريا، أقل ما يقال فيه أنه عرض رفع العتب، وحفظ ماء الوجه للسياسيين، عرضاً “عالميسور” كما يقال باللغة العامية ودون نكهة ولا لون، لا بل كان عرضاً ظّهر مستوى الخلاف المستفحل بين أهل العريس وأهل العروس.
هذا العرض أظهر وبأم العين كمية الوجوم وحجم التجهم الذي كان بادياً على الوجوه وفي التصرفات. كأن الجميع في عزاء وليسوا في فرح؛ حتى خبطات أقدام أفواج المغاوير والمجوقل لم تهز كيانات وتقاسيم وجوه المتمترسين في الصفوف الأمامية، وحتى الخلفية منها . كان عرضاً أضاف الى زلاتهم زلة، عرضاً أظهر كمية الخلاف والحقد والكراهية والتباعد داخل غرف النظام الحاكم.
وهنا نسأل : هل كنا بحاجة الى مثل هذا العرض الذي جاء بارداً مثلجاً وجافاً؟ هل كان الوطن وشعبه العظيم بحاجة لأن يتفرج على عرض لم يتم دعوتهم اليه وكان مقتصراً على المقربين جدا؟
لم نعرف لمن كان هذا العرض موجهاً؛ ولم نعرف ما الهدف من إقامته؛ فأكثرية الشعب كان مشغولاً بمشاهدة واقامة عرضاً من نوع آخر وفي مكان آخر وساحة أخرى وبنكهة مختلفة.
العرض الثاني فكان عرضاً وطنياً ومدنياً جميلاً، عرضاً ولد من رحم الثورة. عرضاً سُكبت لولادته كاسات “المغلي”، ووزعت لأجله الحلوى. لا بل كان عرساً لأجمل عريس، كان فرحاً بكل ما تحمل الكلمة من معنى، حمل من الابتسامات والزغاريد ما لم يحمله عرس من قبل. كان عرس الوطن عرس الأمل عرس الثقافة والموسيقى والإنتاج والاباء والامهات وحقوق الانسان والطلاب والأطباء والمهندسين والمغتربين وكافة شرائح المجتمع الذين فاق عددهم الأربعين، حتى فوج الطناجر كان هناك. وللطناجر دلالة على وفرة الغذاء وتعب الأمهات وفرح الاباء والأبناء بلقمة هنية رضية ملؤها الصحة والعافية.
العرض الأصلي والأساسي كان في ساحة الشهداء ساحة الوطن، كان عرضاً جامعاً يضج بالحياة والفرح والسعادة باستعادة الحرية وقول كلمة حق؛ ” فأفضل الجهاد قول كلمة حق عند سلطان جائر”.
كانت نبضات القلوب تُسمع في كافة أرجاء الوطن وأصوات الفرح والزغاريد تطال مسامع الرافضين لأن يسمعوا، والذين صموا آذانهم طيلة شهر ونيف منذ أدارت الثورة محركاتها. كانت الابتسامات تغطي الشاشات والساحات وسطوح البيوت، وعطر الأنفاس الطيبة يطهر الأجواء من كل حقد وكراهية ومذهبية وجغرافية وعصبية عمياء. كانت دموع الفرح الصادقة تغسل عار التخلف والفساد والانبطاح والارتهان لتسقي تراب وطن نضيف جميل نحلم به لأولادنا وأجيالنا القادمة من بعدنا. كانت الأيادي والسواعد تتشابك وتترابط لتحمي الوطن من أية مخاطر محدقة ولتسيج الحدود من اعدائه المتربصين.
كان الأطفال على اكتاف آبائهم، جيء بهم ليشاهدوا حقبة تكتب من تاريخ لبنان، حقبة يزرعها الإباء في عقول وقلوب صغارهم وامانة يحملونها حتى الممات. جيل من طلاب الجامعات والمدارس أبى إلا أن يساهم في كتابة تاريخ وطن و”شعب عظيم”. كبار السن جاءوا من كافة أرجاء الوطن ليشهدوا على تغيير، ولو في آخر العمر، تغييراً لم يتسنى لهم القيام به، عسى أن يتحقق قريباً، كباراً حملوا دعواتهم وصلواتهم لنجاح الثورة في التغيير.
للذين لم تطال مسامعهم دوي طبول الثورة وهتافات الأبطال في الساحات، للذين أشاحوا بعيونهم عن مشهد فرح الاستعراضات التي كنت تضج من مشرق الوطن الى غربه ومن شماله الى جنوبه، وللذين ولم تطال قلوبهم نبضات قلوب إخوانهم في المواطنة، نقول ان الوطن للجميع وهو الأمل والغد والمستقبل. فاجعلوه قبلة لكم ومنارة كما عرفناه وعرفه العالم، وإذا لم تحافظوا عليه، فلن يأتي أحد من العالم ليحفظه لكم.
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا