هل يجب أن تخافَ واشنطن من صعودِ الصين؟ | بقلم غابي طبراني
كانَ الرأيُ السائد والمُتَّفَقُ عليه بين مؤسّسات السياسة الخارجية الأميركية على مدى السنوات العديدة الماضية، هو أنَّ الولايات المتحدة والصين مُنخَرِطتان في “مُنافسة قوى عظمى”. ويبدو أنَّ هذه المُنافَسةَ تمتدُّ الآن إلى أيِّ شيءٍ وكلِّ شيء، من أشباهِ الموصلات والبطاريات والمركبات الكهربائية، إلى مُمارَسةِ النفوذِ في الشرق الأوسط وأفريقيا، وتشكيلِ قواعدِ النظام العالمي، بل وحتّى تَصَدُّر عدد الميداليات الأولمبية.
هذا المنظورُ للمُنافسةِ يَعكُسُ المخاوفَ بشأنِ صعودِ الصين التي أصبحت مُتَفَشِّية الآن في واشنطن وأوروبا وآسيا، حتى أنّها شقَّت طريقها إلى مناقشات قمة مجموعة السبع. وقد أثارَت هذه المخاوف بدورها مجموعةً من المُناقشات من الدرجة الثانية، مثل الحجمُ الفعلي للموازنة العسكرية للصين، وحالةُ اقتصادها واستدامته محلّيًا، وهو مزيجٌ من السيطرة الاستبدادية ورأسمالية السوق الحرة الانتقائية. بل إنَّ هناكَ بعضَ التساؤلات حولَ ما إذا كانت الصين الآن في حالةِ انحدارٍ بالفعل وليسَ في مرحلةِ صعود.
لكن ما الذي يُفسِّر كلّ هذا الانزعاج والتخوّف بشأن صعود الصين؟ هل يُشَكِّلُ ذلك تهديدًا حقيقيًا للولايات المتحدة، أم أنَّ هذه المخاوف كُلُّها تدورُ في أذهانِ صُنّاعِ القرارِ السياسي في الولايات المتحدة، بشكلٍ خبيثٍ من التفكير الجماعي؟ إحدى الطُرُق لمعرفة الجواب هي أن نطرحَ السؤال التالي: “ماذا تريدُ أميركا من الصين؟” والبديل، وربما توضيح الصياغة، هو أن نسأل: ما هو هدفُ واشنطن النهائي؟ لأنّهُ بدونِ معرفةِ ذلك، سيكونُ من المستحيل على الولايات المتحدة أن تَعرِفَ ما إذا كانت فازت وتفوَّقت في منافستها مع الصين.
قد يكونُ من المُغري أن نضعَ المناقشة حول صعود الصين في إطارٍ يَدورُ بين أولئك الذين يشعرون بالقلق إزاء تحوّلِ الصين إلى قوّةٍ عالمية، وأولئك الذين لا يشعرون بالقلق. لكن يبدو أنَّ المناقشة الحالية في دوائر السياسة تبدو أكثر دقّةً وتتكوَّنُ من أربعِ وجهات نظر، أو حتى مُعسكرات.
يرى المُعَسكَرُ الأوّل أنَّ “النصرَ” ليس مُمكِنًا فحسب، بل ضروريًا. هذه هي الحجّة التي طرحها نائب مُستشار الأمن القومي الأميركي السابق مات بوتينجر ورئيس اللجنة المختارة في مجلس النواب المَعنية بالحزب الشيوعي الصيني مايك غالاغر. من وُجهةِ نظرهما، يجب على الولايات المتحدة أن تعملَ ليس فقط على مواجهةِ طموحاتِ الصين والتحقّق منها، بل على التسبُّبِ في انهيارِ حزبها الشيوعي ونظامها. إنَّ النتيجةَ الوحيدة المقبولة لهذه “الحرب الباردة الجديدة” بين الصين والولايات المتحدة، وفقًا لهذه الحجّة، هي أن تنتهي بطريقةٍ مُشابهةٍ لـ”الحرب الباردة القديمة” بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي: الاستسلام الكامل لخصمِ واشنطن.
أمّا المُعسكرُ الثاني فهو أقل اهتمامًا بالفوز وأكثر تركيزًا على رَدعِ الصين عن أسوَإِ النتائج، وخصوصًا محاولة الاستيلاء على تايوان بالقوّة. ينظر هذا الرأي إلى العنصر العسكري القوي في المنافسة باعتباره استجابةً ضروريةً لصعود الصين. لكن هدفه الرئيس يتلخّصُ في استخدامِ العُنصرِ العسكري لرَدعِ العدوان من جانب الصين، بدون السعي بالضرورة إلى التسبّب في انهيارها. إنها استراتيجية الإنكار، إذا استعرنا ما قاله نائب مساعد وزير الدفاع الأميركي للشؤون الاستراتيجية وتطوير القوات السابق، إلبريدج كولبي، أحد المدافعين الرئيسيين عن هذا النهج. النصرُ قد لا يكونُ مُمكنًا وفقًا لهذا المعسكر، لكن الهزيمة ليست حتمية. بدلًا من ذلك، فإنَّ النتيجةَ الأفضل هي نوعٌ من السلامِ السلبي، حيثُ يكون كلا الخصمَين مُسَلَّحَين ولكن بدون وقوع الحرب أبدًا.
ويؤكِّدُ المُعسكَرُ الثالث على ثني بكين بدلًا من ردعها. فهو يرى أنَّ الصين تلعبُ، على سبيل الاستعارة من مدير مبادرة بروكينغز لاستراتيجية الصين راش دوشي، “اللعبة الطويلة”، مُتَوَسِّعةً إلى مناطق أهملتها الولايات المتحدة لفترةٍ طويلة. ويُمكِنُ أن يتراوحَ ذلك من تقديمِ القروض لتطوير البنية التحتية إلى البلدان التي لم تتمكّن من الحصول على الأموال من خلال البنك الدولي الذي تُهَيمن عليه الولايات المتحدة، إلى تقديم المساعدة للحكومات في مجال الأمن الداخلي.
في حين يرى هذا المعسكر سُبُلًا للتعاون بين الولايات المتحدة والصين، فإنه لا يزالُ يشعُرُ بالقلق من أنَّ سعي الصين إلى تحقيق طموحاتها سيعمل ضد مصالح الولايات المتحدة، وبالتالي يجب مواجهتها. لكن بالنسبة إلى دُعاةِ هذا النهج، فإنَّ تجنُّبَ النتيجةِ الأسوَإِ للتنافُسِ بين الولايات المتحدة والصين يتطلّبُ التركيز على القلم أكثر من التركيز على السيف. وهذا يعني إعطاء الديبلوماسية ليس الفرصة فحسب، بل القيادة. ويتعيّنُ على صنّاعِ السياسات أن يمتنعوا عن تبنّي موقف المواجهة من أجل المواجهة، وأن يُركِّزوا بدلًا من ذلك على الهدفِ الرئيس المُتمثّل في الفوز بالمنافسة. إنَّ النهجَ العسكري، كما يدعو إليه المعسكران الأوَّلان، لن يؤدّي إلّا إلى زيادةِ احتمالِ نشوبِ حربٍ كبرى لن يخرجَ منها أيٌّ من الطرفين مُنتصرًا.
وأخيرًا، هناكَ مُعسكرُ المُتَكَيِّفين، الذي يدعو الجميع إلى “التهدئة”. ويرى هذا المُعسكَر أنه على الرُغم من تبايُنِ مصالح الصين وواشنطن، فلا توجَدُ حاجةٌ حقيقيةٌ للتنافس مع الصين، وبالتالي زيادة احتمال نشوبِ صراعٍ غير مرغوب فيه وغير ضروري. ويحملُ أنصارُ هذا النهج وجهةَ نظرٍ أكثر اعتدالًا بشأِن طموحات الصين. فبدلًا من الإعتقاد بأنَّ بكين تسعى إلى تحقيقِ أهدافٍ مُتطرِّفة تتمثّلُ في الإطاحة بالولايات المتحدة والحلول محلّها في النظام العالمي، فإنها تريدُ أن تُصبِحَ زعيمةً إقليمية على الأكثر. ولا تحتاج الولايات المتحدة إلى إدارة الصين أو مواجهتها، وهو ما يُحذّرُ محللون مثل الباحثة الأكاديمية الأميركية “جيسيكا تشن فايس” من أنه قد يُصبِحُ نبوءةً ذاتيةَ التحقّق تؤدّي إلى صراع.
ما هو التفكيرُ الذي يجب الأخذ به في هذه المناقشة؟ إنَّ النظرةَ الحميدة والإيجابية تمامًا حيالَ صعودِ الصين تبدو ساذجة في أحسن الأحوال. ربما يزعمُ الرئيس الصيني شي جين بينغ أنَّ الهيمنةَ ببساطةٍ ليست في الحمض النووي للصين، وخصوصًا الصين التي يقودها الحزب الشيوعي. لكن أولئك الذين يعيشون في هونغ كونغ -وتايوان- قد يختلفون مع ذلك. قد تكون الصين تسعى أو لا تسعى إلى الهيمنة العالمية، لكنَّ الهيمنةَ الإقليمية تبدو بالتأكيد مطروحةً على الطاولة. والواقع أنَّ الصين تبدو مُهتَمّةً بالتحوّل إلى القوّة المُهَيمنة في منطقتها، وهو ما يتضمّن محاولتها الدائمة الحصول على ما تُريدُ في مختلف النزاعات الإقليمية التي تخوضها مع جيرانها.
على الصعيدِ العالمي، تبدو بكين أيضًا غير راضية عن النظام السياسي والاقتصادي الحالي الذي يقوده الغرب. ولا يبدو أنّها تُريدُ الانفصالَ الكامل عن هذا النظام. لكنها تُريدُ المزيدَ من التأثير والكلمة في كيفيةِ عملِ النظام الحالي، وهذا أمرٌ مفهوم.
في الواقع، لا يوجد شيءٌ فريدٌ بالنسبة إلى الصين في هذا الشأن. إنها السمة المُميّزة للقوة الكبرى التي تسعى إلى شيءٍ واحد: التأثير. أيُّ قوةٍ كبرى تُريدُ أن يعملَ النظام بطريقةٍ تخدُمُ مصالحها. وحتى لو استفادت قوّةٌ ما من القواعد الحالية، فإنها تريد أن تكونَ في وَضعٍ يسمحُ لها بتغيير تلك القواعد –بل وحتى تجاهلها في بعض الأحيان– إذا لم يعد الأمر كذلك. منذُ وقتٍ ليس ببعيد، كانت الولايات المتحدة تُريدُ الشيءَ نفسه. وعندما أتيحت لها الفرصة للقيام بذلك، استغلّتها، على الرُغمِ من أنَّ ذلك جعلها في خلافٍ مع الاتحاد السوفياتي السابق، الذي أراد أن يفعلَ الشيءَ نفسه.
صحيحٌ أنَّ السَعيَ وراء النفوذِ وحرّيةِ وَضعِ قواعد النظام العالمي يُمكنُ أن يؤدّي إلى المنافسة، ومعها احتمال الحرب، ولكن كما تُوَضِّحُ المناقشة الحالية في واشنطن، هناكَ وسائلُ مُتعَدّدة يُمكِنُ لقوةٍ كبرى أن تُحقّقها لتحقيقِ تلك الأهداف، تمامًا كما توجدُ وسائل متعددة لدى قوةٍ كبرى مُنافِسة لمواجهتها. لكن من المؤسف أنه لا توجدُ طريقةٌ للمعرفة مُسبَقًا ما هي الطريقة الأكثر فعالية لتحقيق الأهداف مع تجنُّبِ الأسوَإِ، وهذا يعني أن المناقشة حول كيفية الاستجابة لصعود الصين سوف تستمر في المستقبل المنظور في واشنطن.