ازمة لبنانالاحدث
عتمةٌ في الدولة وفي الوطن نُور | بقلم هنري زغيب
لا أَعرف بلدًا، كما عندنا، ليس فيه سوى طريق دُوليٍّ واحدٍ من أَقصى شَماله فوق إِلى أَدنى جنوبه الحدودي، ومن فقْش موجِهِ إِلى أَعلى شرقه، وهو أَصلًا ليس سوى ممرٍّ مثقوب بحُفَر صارت دهاليز، تَزحَم جانبيه دكاكينُ الخُضَر والفواكه فيزدحمُ فيه السير كلَّما توقَّفَت “مَدام” Madameتريد أَن تشتري “قرن بوظة”.
ولا أَعرف بلدًا، كما عندنا، ليس فيه إِلَّا مطارٌ واحدٌ حتى إِذا داهمه الخطر انفتَحَت أَمواج بحر جونيه يَتَمَركَبُ فيها المضطرُّون محتملين ليلةً طويلةً مُمِضَّةً قبل أَن ترسو بهم الباخرة عند رمال لارنكا.
ولا أَعرف بلدًا، كما عندنا، أَحدثُ إِحصاء رسمي فيه للسكان يعود إِلى 1932 أَي منذ 92 سنة ولا يزال معتَمَدًا.
ولا أَعرف بلدًا، كما عندنا، تنفَجر فيه واجهةُ عاصمته فترتفع أَصواتُ المسؤُولين المشبوهين لا للشهادة بل لإِلقاء التُهمة على سواهم والتنصُّل بكل عهر ووقاحة من مسؤُوليتهم.
ولا أَعرف بلدًا، كما عندنا، يُصدِر فيه قاضي التحقيق قرارَ اشتباهٍ واستجوابٍ عاديًا لا تُهمَة فيه بَعد، وعوض أَن يَمْثُلَ المشتبه بهم أَمامه، يطالبون بتَغيير القاضي.
ولا أَعرف بلدًا، كما عندنا، يتغيَّب فيه الوزراء والنواب عن حضور الجلسات، أَو يقاطعون الجلسات، أَو يخرجون بأَمر من أَسيادهم ليُعطِّلوا النصاب. يُمضون عطلاتهم خارج البلاد مرفَّهين مع أُسَرِهم، ويتقاضون رواتبهم بكل وقاحة آخر الشهر، وليس مَن يحاسبُهم حتى الذين انتخبوهُم بكل غباء.
ولا أَعرف بلدًا، كما عندنا، شحَّادًا يعيش على المساعدات والهبات والإِعانات والمعونات والإِعاشات ويتمتَّع سياسيوهُ بأَفخم ظروف العيش وليَأْكلِ الشعبُ الكعك إِن نفَدَ عنده الخبز.
ولا أَعرف بلدًا، كما عندنا، تنقطع فيه الكهرباء عن كُلِّ البلاد، فيتقاذف المعنيون التقصير من الوزير إِلى مؤَسسة الكهرباء إِلى مديرها العام إِلى آخر الليستة، فينتفض نيرونيو المولِّدات يسلُخون ما بقي في جيوب الناس المقهورين.
تطول اللائحة لو أُكمل ما لا أَعرف بلدًا آخر يجري فيه ما يجري عندنا من بؤْس وخوف وقلق على المصير، ومسؤُولُوه رابضون على مقاعدهم عوض أَن يكونوا في السجون، ويَتَغَنْدَرون في الإِعلام عوض أَن يكونوا واقفين في أَقفاص المحكمة. ولكن… مَن يحاسب مَن؟ وكيف ينصاع مسؤُولٌ إِلى الوقوف في جلسة استجواب، وهو الذي يقرِّر مَن يستجوب إِذا آنَ له أَن يقرر؟
كلُّ هذا ولبنانُ السُلطة ينهار، والدولة مزجَّجةٌ في نواويس أَوليائها، ممنوعةٌ من الحركة والبركة والشركة، والمواطنون حاسرو الصيانة والأَمن، مكشوفو المصير وليس مَن يحميهم.
وسْط كل ذلك، طلعَت علينا جريدة “النهار” صباح الإِثنين من هذا الأسبوع، بالصفحة 5 كاملةً عن خمسة عشر لبنانيًّا هم “أَقوى الرؤَساء التنفيذيين الإِقليميين”، ما يدل على أَنَّ لنا في العالم عشراتٍ آخَرين كهؤُلاء يُديرون مؤَسساتٍ عالَميةً كبرى، همُ الْــيَستحقُّون أَن يكونوا في السُلطة فينهضوا بالدولة وينصِّعوا صورة الوطن.
لا خلاصَ لنا إِلَّا بسقوط من يُفَتِّتون مفاصلَ الدولة فلا يستحقُّون السُلطة. ولْيَأْتِ مكانهم عبقريُّون لبنانيون في كل اختصاص، يحكُمون البلاد بنبوغهم. لكنهم… لن يعودوا طالما يَحكُم لبنان دينوصُوريُّون يُجَدِّد الشعبُ انتخابهم كل أَربع سنوات.
اللبنانيون النابغون هم الخلاص إِذ يدركون قيمة الوطن.
ومَن يكون في نُور الوطن يعرف كيف يَطرُد من الوطن عتمةَ الدولة.