ازمة لبنانالاحدث

تَوقيف رياض سلامة: الحَدَثُ وبَيتُ القَصِيد! | بقلم البرفسور بيار الخوري

هل جاءَ تَوقيفُ رياض سلامة، حاكم مصرف لبنان السابق، في إطارِ الحربِ على الفساد التي طالما كانت ضرورةً وطنيةً مُلِحّة؟ وهل يُعَدُّ هذا التوقيف نقطةَ تحوُّلٍ في مُقاربةِ مُكافحةِ الفساد، خصوصًا بعدَ سنواتٍ طويلةٍ من الإفلاتِ من العقاب وتزايُدِ الضَغطِ الشعبي والدولي للإصلاحاتِ الجذرية؟ لا شكَّ أنَّ هذه الخطوة تأتي في سياقِ حاجةِ لبنان المُلِحّة والضرورية إلى اتخاذِ إجراءاتٍ ملموسةٍ نحو المُساءَلة والشفافية.

رياض سلامة، الذي شغل منصب حاكم مصرف لبنان ل30 عامًا (1/8/1993-31/7/2023)، كان يُعتَبَرُ رُكنًا أساسيًّا في إدارةِ السياسات النقدية في البلاد. إلَّا أنَّ السنواتَ الأخيرة من ولايته كشفت عن خطورةِ السياسات التي اعتمدها على مدى عقود، والتي ساهمت في التدهور الاقتصادي الكبير الذي شهده لبنان. وقد دفعت هذه الأزمات الكثيرين، سواءً عن سوءِ نيّة أو عن جهل، إلى تحميله المسؤولية الحصرية عن الأزمة المالية التي تَعصُفُ بالبلاد.

في ظلِّ هذه الأزمةِ الاقتصادية غير المَسبوقة، أصبح ملفُّ مُكافحةِ الفسادِ والمُحاسبةِ على الانهيارِ المالي محورَ اهتمامٍ محلّيٍّ ودولي. ووفقًا لتقارير البنك الدولي، فإنَّ الفسادَ وسوءَ الإدارة كانا السبب الرئيس في “الانهيارِ المُتَعَمَّدِ” للاقتصاد اللبناني. الشعبُ اللبناني، الذي يَئنُّ تحتَ وطأةِ هذه الأزمة، خرج مرارًا وتكرارًا في مظاهراتٍ تُطالبُ بالعدالةِ والمُحاسبة، رافعًا شعار “كُلُّن يعني كُلُّن”، في إشارةٍ إلى ضرورةِ مُحاسَبةِ جميع المسؤولين. وجاءَ توقيفُ رياض سلامة كاستجابةٍ مُتَأخِّرةٍ لهذه المطالب الشعبية، وربما يُمثِّلُ بدايةً فعليةً نحو المُساءلة عن السياسات التي أوصلت البلاد إلى هذه الأزمة.

منذ العام 2019، شهدَ لبنان تفاقُمًا حادًا في أزمته المالية، حيث فقدت العُملةُ المحلّية أكثر من 90% من قيمتها، وتعرَّضت البنوك لضغوطٍ غير مسبوقة في الوفاء بالتزاماتها تجاه المودعين. سلامة، باعتبارِهِ المُهندس الرئيس للسياسات النقدية والمالية، اعتمَدَ على سياساتٍ ذات فوائد مُرتفعة لجذب الودائع بالدولار الأميركي. وقد أثارت “الهندساتُ المالية” التي اتَّبَعها انتقاداتٍ شديدة، إذ وصفها الرئيس الفرنسي (ولو لاحقًا) بأنها كانت بمثابة “مُخَطّط بونزي”، تسبّبت في زيادةِ الدين العام واستنزافِ احتياطات العملات الأجنبية.

لبنان اليوم يقفُ عند مُنعطَفٍ حاسم، حيثُ باتت الإصلاحات الاقتصادية العميقة شرطًا لا غنى عنه لاستعادةِ الثقة الدولية والمحلّية. الحربُ على الفساد لم تَعُد مجرّد مطلبٍ شعبي، بل أصبحت أيضًا جُزءًا من خطّةٍ شاملة لاستعادةِ النموِّ الاقتصادي، ومحاربة البطالة، والحدّ من الأنشطة غير الشرعية. وفقًا لتصريحاتِ مسؤولين في صندوق النقد الدولي، فإنَّ أيَّ خطّةِ إنقاذٍ للبنان يجبُ أن تشملَ إصلاحاتٍ جوهرية تتعلّقُ بمحاربةِ الفساد وتحقيقِ الشفافية في إدارةِ المال العام. توقيفُ سلامة يُشيرُ إلى بدايةِ هذا الطريق، لكنه ليس سوى جُزءٍ من عمليةٍ أوسع يجب ان تستهدفَ إعادةَ تشكيلِ المشهدِ السياسي والاقتصادي في لبنان.

الدورُ الذي يلعبهُ الرأيُ العام في هذه الحرب على الفساد لا يُمكِنُ إغفاله. ليسَ توقيفُ رياض سلامة نتيجةً مباشرة لهذا الراي العام الذي كان يُنظَرُ إلى عدم محاسبته كإشارةٍ إلى غيابِ النيّة في تنفيذِ الإصلاحات الضرورية، لكن تفكُّك القاعدة الاخلاقية للسلطة لا يُمكِنُ إغفال أثاره طويلة الأمد على ديمومة نظرة المجتمع إلى السلطة.

الآن، تتوَجَّهُ الأنظارُ إلى دورِ القضاء اللبناني في هذه القضية. إنَّ العدالةَ المُستَقلّة والشفّافة هي الأساس لأيِّ جهودٍ حقيقيةٍ لمكافحة الفساد. والتحدّي هنا يَكمُنُ في قدرةِ القضاء على إجراءِ مُحاكمةٍ عادلةٍ تُنصِفُ المُتضرّرين من الأزمةِ المالية وتُظهِرُ التزامَ لبنان بالمحاسبة على أعلى المستويات. هناكَ توافُقُ رأيٍ واسعٍ على أنَّ إصلاحَ النظام القضائي يُعَدُّ من أهمِّ الخطواتِ اللازمة لضمانِ خروجِ لبنان من أزمته الحالية.

توقيفُ رياض سلامة قد تكون له تداعيات كبيرة على القطاع المصرفي اللبناني. فالبنوك اللبنانية، التي كانت في قلبِ الأزمةِ المالية، تواجِهُ اليوم تحدّياتٍ ضخمة في استعادةِ ثقة المودعين. ومع غموضِ مُستقبلِ السياسات النقدية، قد يزيدُ توقيف سلامة من حالةِ عدم الاستقرارِ وعدم اليقين إذا لم تترافَق هذه الخطوة مع إصلاحاتٍ جوهريةٍ تهدُفُ إلى إصلاحِ النظامِ المصرفي وضمانِ حقوقِ المودعين. بناءً على منطق الأحداث، فإنَّ الحربَ على الفساد في القطاع المالي يجب أن تتزامَن مع إصلاحاتٍ هيكلية لضمانِ استدامةِ النظام.

التوقيفُ الحدث يُمثّلُ لحظةً فاصلةً في مسارِ الحرب على الفساد في لبنان. ومع ذلك، فإنها ليست سوى خطوةٍ أولى في طريقٍ طويلٍ وشاقٍ يتطلَّبُ نخبةً سياسية وقضائية جريئة وغير مُتورِّطة، وهذا هو بيت القصيد!

البروفسور بيار بولس الخوري ناشر الموقع

البروفسور بيار بولس الخوري اكاديمي وباحث، خبير في الاقتصاد والاقتصاد السياسي، يعمل حاليا مستشار ومرشد تربوي ومستشار اعمال. عمل خبيراً اقتصادياً في مجموعة من البنوك المركزية العربية وتخصص في صناعة سياسات الاقتصاد الكلي لدى معهد صندوق النقد الدولي في واشنطن العاصمة. له اكثر من اربعين بحث علمي منشور في دوريات محكّمة دولياً واربع كتب نشرت في الولايات المتحدة والمانيا ولبنان تختص بإقتصاد وادارة التعليم العالي، ناشر موقع الملف الاستراتيجي وموقع بيروت يا بيروت المختص بالادب. منشأ بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة بوديو. كاتب مشارك في سلسلتي "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط" و" ١٧ تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان" المتوفرتان عبر امازون كيندل. في جعبته مئات المقابلات التلفزيونية والاذاعية والصحفية في لبنان والعالم العربي والعالم ومثلها مقالات في الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية الرائدة. يشغل حالياً مركز نائب رئيس الجمعية العربية-الصينية للتعاون والتنمية وأمين سرّ الجمعية الاقتصادية اللبنانية وعميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى