الصورة الكبيرةقراءات معمقة

في معنى الدول الفاشلة | بقلم محمد محفوظ

ثمة حقيقة سياسية و مجتمعية تكشفها الكثير من الأحداث السياسية الكبرى التي تجري في المنطقة , إلا أن القلة من المهتمين من يلتفت إلى هذه الحقيقة , و يرصد آثارها و متوالياتها على المواطنين و على الاستقرار المحلي و الإقليمي و الدولي . 

و هذه الحقيقة هي أن أخطر مرحلة تبلغها الأحداث و التطورات في أي بلد , هو حينما يصبح هذا البلد بلا راعي , و بلا حكومة تضمن الحدود الدنيا للنظام و تسيير شؤون الناس . 

لأن الدولة التي تصبح بلا راعي ينظم مصالح الناس ولو في الحدود الدنيا , و يمنع التعديات على أملاك الناس و أعراضهم , تصبح هذه الدولة فضاء مفتوح و متاح لجميع الجماعات السياسية و الإجرامية لتنفيذ مخططاتهم و أجندتهم بعيدا عن الرقابة و المحاسبة من قبل الأجهزة الرسمية . وفي ظل صعود الجماعات العنفية العابرة للحدود , تتحول هذه الدولة الفاشلة إلى بيئة حاضنة لهذه الجماعات , تدرب فيها عناصرها على الأعمال الإرهابية و العنفية و تطوير تعبئتها الأيدلوجية , مما يسرع في عملية أتساع دائرة هذه الجماعات التي تهدد أمن الأوطان و المنطقة بأسرها .. و أمام هذه الحقيقة المركبة و المتداخلة , تتعقد أزمة الأجهزة الأمنية القادرة على ضبط الأمن في هذه الدول , و تصبح هذه الدول الفاشلة ساحة مكشوفة لكل الإرادات و المشروعات الأمنية و السياسية , مما يزيد الأعباء على أبناء هذا الوطن و تلك الدولة الفاشلة . فالجميع يتنافس و يتصارع بمختلف الأسلحة الأمنية و السياسية و العسكرية على أرض ليست أرضهم و بدماء هذا الشعب المسكين الذي انهارت دولته و تحولت إلى دولة فاشلة غير قادرة على ضبط أمنها الداخلي و أمن حدودها . و لكونها أضحت ساحة مكشوفة و غير مسيطر عليها بقانون و أجهزة تنفيذية قادرة على ضبط الأمن و الاستقرار , فإن جميع القوى الإقليمية و الدولية و القوى الخارجة على قوانين بلدها , ستتجمع في فضاء هذه الدولة الفاشلة و ستتصارع هناك و ستدمر بقية البنية التحتية غير المدمرة , و ستفتك بالنسيج الاجتماعي و الوطني , مما يفاقم من أزمات هذه المجتمعات , و يدخلها في أتون الفوضى المدمرة و الكارثية على كل الصعد و المستويات . 

و أمام هذه الحالة التي تؤثر سلبا و بشكل عميق على الأمن الوطني و الإقليمي و الدولي نود التأكيد على النقاط التالية : 

1 – لو تأملنا في البدايات الأولى و التي أنتجت في المحصلة النهائية ما نسميه ( الدولة الفاشلة ) سنجد أن أحد الأسباب الأساسية هو انسداد أفق الحل و المعالجة الداخلية لمشاكلها السياسية و الأمنية و الاقتصادية و تصلب جميع الأطراف و عدم تنازلها و سعيها إلى خلق تسوية ترضي الإطراف المتصارعة و تخرج الوطن و الشعب من احتمالات الصدام و الصراع الدائم . 

فحينما ينسد أفق الحل السياسي الداخلي و تتعاظم تأثيرات الأزمة , و تستدعي جميع الأطراف المتصارعة الخارج سواء بشكل مباشر أو غير مباشر , فإن النتيجة الفعلية المترتبة على ذلك هو تأكل الدولة و مؤسساتها من الداخل و تعزيز الانقسام الأفقي و العمودي في المجتمع . 

و توقف عجلة البناء و التنمية , وكل هذه العناصر مجتمعة تفضي إلى دخول هذه الدولة في مرحلة الفشل و العجز عن معالجة مشاكلها و أزماتها المستفحلة . و حينما تصل الدولة إلى مرحلة الفشل و التآكل الداخلي , فإن عودتها إلى عافيتها يتطلب الكثير من الجهود و الإمكانات و الصبر , وقد تتعافى وفي كثير من الأحيان لا تتعافى , وإنما يستمر التدمير و الدمار و القضاء على المؤسسات المتبقية للدولة . و أمامنا جمهورية الصومال كمثال على ذلك , فهي و منذ سنين طويلة تعاني الصعوبات الجمة للعودة إلى دولة مركزية قادرة على ضبط الأمن و تسيير شؤون مواطنيها . فلم يعرف الشعب الصومالي خلال العقود الثلاثة الماضية إلا القتل و الدمار و الحروب الداخلية و الكانتونات المغلقة على بعضها البعض و التدمير المتواصل للنسيج الاجتماعي و القبلي . من هنا ولكي لا تصل بعض الدول العربية الأخرى إلى مرحلة الفشل بحاجة إلى الإسراع في وقف الانحدار و التآكل الداخلي , عبر الإصلاحات الإدارية و الدستورية و السياسية , التي تعيد الحياة إلى مشروع الدولة , وتعيد ثقة شعبها بقدرة الدولة على الخروج من مأزق الانهيار و التآكل الداخلي . 

 2- دائما في لحظات انهيار الدول المركزية , تبرز و تتعاظم الانقسامات الاجتماعية تحت يافطات دينية أو مذهبية أو عرقية أو قبلية أو جهوية , مما يجعل الانهيار خطيرا لأنه يصيب الدولة و المجتمع في فترة زمنية واحدة , مما يفاقم من حالة العنف و الاحتراب الداخلي . وهذا التشظي المجتمعي يكشف غياب مشروع وطني لهذه الدول لانجاز مفهوم الاندماج الوطني لذلك وفي اللحظة الأولى لغياب الدولة أو تآكلها تبرز كل التناقضات المجتمعية , ودائما يكون البروز بوسائل قهرية – عنيفة تساهم في تدمير النسيج الاجتماعي و الوطني . وهذا بطبيعة الحال يعود إلى غياب مشروع للانتماء الوطني , بحيث يكون هذا الانتماء هو الانتماء المشترك الذي يضمن حقوق الجميع بدون افتئات على أحد . 

و تتحمل كل الدول العربية في هذا السياق مسؤولية العمل على بناء مشروع وطني متكامل للاندماج الوطني , بحيث لا تتحول مجتمعاتنا العربية إلى مجتمعات منقسمة أفقيا و عموديا تحت يافطة الانتماءات التاريخية و التقليدية . 

و تتوسل هذه الدول في بناء مشروع الاندماج الوطني على وسائل التنشئة و التثقيف و الإعلام و التعليم و التعامل مع الجميع بمساواة على قاعدة المواطنة الجامعة . 

وهذا بطبيعة الحال سيخفف من مخاطر التآكل الداخلي للدولة , لأنه يبقي المجتمع موحدا ولديه القدرة على بناء كتلة تاريخية وطنية قادرة على وقف الانحدار و إعادة بناء الوطن على أسس جديدة تخرج الجميع من أتون المآزق السابقة . 

3- من الضروري أن تدرك جميع دول المنطقة أن تجذر الجماعات التكفيرية و العنفية في المناطق التي انهارت فيه الدولة أو تآكلت , يعد خطرا حقيقيا على الجميع . لأنه لا يمكن للأمن الوطني و القومي العربي أن يهنأ بالاستقرار السياسي في ظل وجود جماعات عنقية – تكفيرية تمتلك القدرة على التدريب العسكري و حيازة الأسلحة و المعدات العسكرية بكل أنواعها . 

لذلك ثمة ضرورة وطنية وقومية لكل الدولة العربية لبناء مشروع عربي متكامل يستهدف مواجهة جماعات العنف والتكفير التي بدأت بالانتشار و التوسع في دول عربية مختلفة مستفيدة من وجود ثغرات أمنية و سياسية عديدة في جسم بعض هذه الدول . لأن هذه الجماعات و كما أثبتت التجربة في أكثر من مكان ,  لا تعرف إلا القتل و التفجير و تدمير البنى التحتية , ولا شك أن هذه الجماعات و بما تشكل من فكر عنفي و ممارسات إرهابية تشكل خطرا محدقا على العالم العربي . ولا خيار أمام العرب إلا الوقوف في وجه الثقافة التكفيرية و الجماعات العنفية و الإرهابية التي قد تلتقي مع إرادات دولية أو إقليمية بشكل موضوعي لإدخال العالم العربي في أتون العنف و العنف المضاد . ولو تأملنا في ظاهرة الإرهاب , لرأينا أن الدول الفاشلة من أخصب البيئات الاجتماعية والسياسية لتمدد حركات وتنظيمات الإرهاب .فتنظيم داعش لو لم يجد دولا فاشلة أو في طريقها للفشل , لما تمكن هذا التنظيم من التوسع والامتداد . لذلك لايمكن محاربة الإرهاب إلا بإصلاح وضع الدول العربية , وإخراج الدول الفاشلة منها من مربع الفشل , عبر دعم مشروعات المصالحة من مآزق انسداد أفق الحل والمعالجة السياسية .

وجماع القول : إن العالم العربي يواجه تحديا جديدا , يتجسد في انهيار و تآكل بعض دوله , مما أدخل مجتمع هذه الدولة في مضمار الصراعات المعقدة و المركبة بعضها متعلق بملفات و صدامات داخلية , وبعضها الآخر متعلق بصراع الآخرين على أرض هذه الدولة المتآكلة مما جعل في الوسط العربي مجموعة من القنابل الحارقة و الخطيرة في آن . 

و أمام هذا التحدي النوعي الجديد , بحاجة أن تبادر دول العالم العربي لإيقاف هذا الانحدار و إيجاد خطط حقيقية و ممكنة لإخراج هذه الدول من سقوطها السريع و تآكلها الداخلي المستغرب .

وهذا لا يتم على نحو فعلي إلا بأدوات إصلاحية , تنهي بعض مآزق العلاقة بين الدولة و الشعب , حتى يتمكن الجميع من الخروج من مخاطر انهيار دولة عربية في ظل أوضاع عربية على أكثر من صعيد حساسة ودقيقة و تتطلب إرادة عربية جديدة تتجه صوب بناء أنظمة سياسية دستورية و قانونية و ديمقراطية .    

محمد محفوظ، مدير مركز آفاق للدراسات والبحوث

محمد محفوظ مواليد المملكة العربية السعودية – المنطقة الشرقية- 1966 كاتب أسبوعي في جريدة الرياض السعودية . مدير تحرير مجلة الكلمة ، وهي مجلة فكرية تعنى بشؤون الفكر الإسلامي وقضايا العصر والتجديد الحضاري . مدير مركز آفاق للدراسات والبحوث. له اكثر من ١٤ مؤلفاً صادراً عن عدة دور نشر مرموقة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى