ازمة لبنانالاحدث
في الثالث يَقوم … ويُدحرج الحجر | بقلم هنري زغيب
تهاطلَت في الأَيام الأَخيرة على شاشات التواصل الإِلكتروني رسائلُ نصيةٌ مصوَّرةٌ أَو مرسومة، بعضُها باكٍ والآخَرُ شاكٍ، وفي معظمها نُواحياتٌ خانعة استسلامية: “يا ضيعان لبنان”، “حمى الله لبنان”، “صلُّوا من أَجل لبنان”، “اللهمّ نستودعكَ لبنان”، … وعبارات ناعيَة أُخرى مصدَرُها انهيار ومآلُها انهيار..
لا.. طبعًا لا.. لبنان لم يمُت.. وأَكثر: لا يموت.. وأَكثر أَكثر: لن يموت.. هذا جهلٌ بتاريخ لبنان وشعب لبنان وحضارة لبنان، وتَعامٍ عن قدرة لبنان على النهوض بعد كوارثَ ومآسٍ وفواجع.. وأَيُّ لبنان؟ ما سوى لبنان اللبناني شعبًا وأَرضًا وإِيمانًا.. لبنانُ اللبناني: حبيبُنا نعانقه، طفْلُنا نحتضنه، أَبونا يحتضننا، وحيدُنا نكتنزُه، حامينا نفيْءُ إِليه… راعينا نطمئنُّ لديه.. وكل كُفْرٍ به فكرٌ هدَّامٌ خائن..
أَيها المتشائمون تفاءَلوا به واثقين.. أَيها المتفائلون وزِّعوا حولَكم تفاؤُلَكم به.. أَيها المشكِّكون اخلَعوا شكَّكُم واشْفُوا منه.. أَيها المؤْمنون آمِنوا به أَكثر.. أَيها الملحدون تخطَّوا إِلحادكم الإِيماني وتحصَّنوا بإِيمانكم الوطني إِنقاذًا إِياه وإِياكم معه.. أَيها المتردِّدون اثبُتُوا على ولاءٍ واحد وحيد لوطنكم الواحد الموحَّد الوحيد..
أَيها الجميعكُم: اليومَ اليومَ قرارَكُم فامتَشِقوا، ولينفجر صوتُكُم الحُرُّ صاعقةً في وجوه الـمُرائين والفرِّيسيين والكَتَبة واليوضاسيين والـمُلْجَميين والبيلاطُسيين.. إِسفِروا الأَقنعةَ عن جميع الوُجوه.. أُحسُروا التيجانَ المزيَّفة عن جميع الرؤُوس.. إِخلعوا كراسيَ ما زال يتعاقبُ عليها فاسدون وتجار باعوكم ليشتروا زعاماتهم.. إِشْهَروا حقيقةَ موقفكم منهم وشَهِّروا بهم في خلواتكم وتجمُّعاتكم.. هو هذا خلاصكُم اليومَ ولا خلاصَ لكُم إِلَّا به: إِخلَعوا النيرَ عن عُقُولكُم، والاتِّباعيةَ عن خضوعكُم، والزبائنيةَ عن سلوككُم.. أَنا أَحترمُ ما تَنشرون من شموع ودُعاءَات وأُمنيات وتَضرُّعات، لكنها وحدَها لا تكفي.. لا تُنقِذ.. لا تَردعُ التنّين..
لبنانُ ليس حزينًا ولا محتضِرًا فلا تُلْقُوا عليه صلاة الموتى ولا العبارات الجنائزية.. إِضاءةُ الشموع لا تكفي بل إِضاءةُ الإِيمان به في قلوبكُم والنيَّات، والثقةُ بعودة لبنان الأَكيدة إِلى لبنان العقيدة.. العودةُ من أَين؟ من نواويس طقْم يحكُمه منذ عقود وما زال يتناسل فاسدين عن فاسدين.. والعودةُ إِلى أَين؟ إِلى وطنٍ لا يصلُ إِلى حُكْمه إِلَّا الشرفاء الجديرون المستاهلون، وما أَكثرهم على أَرضه وبين مَهَاجره في العالم.. وإِلى أَيِّ عقيدة؟ الانتماء إِلى تلك الْــوَحدها الأَقدسُ والأَسمى والأَصح: لا “لبنان أَوَّلًا” فقط بل لبنان أَوَّلًا وأَخيرًا، لا سواه ولا بَعدَه ولا معه”، وهي العقيدة التي تختصرها كاملةً عبارةُ “لبنان اللبناني”..
كيف يكون ذلك؟ أَن يؤْمنَ شعبنا كلُّهُ بأَننا مواطنون أَحرار لا رعايا زعماء سياسيين يتولَّوننا اقتسامًا زبائنيًا بينهم.. عندئذٍ يبدأُ شفاءُ الدولة من هشاشة جسمها الذي ظَلَّ مغتصبُوها يقْضمونَه وينهشونَه ويتقاسمونَه ويؤَجِّرونه للسوى حتى أَنهكوه..
ولا خلاص؟ بلى: الخلاصُ في استرجاع لبنان من جلَّاديه الذين فتحوه ساحةً مؤَدلَجَةً، وحين ضاقت به ويلاتها لم يجِد أَحدًا يسانده بشبْر واحد.. فلْنعُد إِلى أَصالته ولْنَشْهَر إِيماننا به كاملًا: بكل شبر في تراباته المقدسة من أَول حبَّة في أَقصى شماله إِلى آخر زيتونة في أَقصى جنوبه إِلى أَبعد فلْذة في شرقه إِلى أَصغر رملة على شاطئه.. هو هو ولا إِلَّاه.. هو هو ولا سواه.. إِيمانُنا به وحدَه دون أَيِّ انتماءٍ داخليٍّ مُعار ولا خارجيٍّ مستعار..
الآنَ الآنَ وقتُ التجمُّع والاجتماع والإِجماع.. الآنَ الآنَ وقتُ الانتفاضة من قلب المأْساة.. السلام لا نَتَسوَّلُه بل نَصنعُه نحن بصوت واحد وقرار واحد وكوكبة حكَّام جُدُد أَكفياء..
الله يحمي لبنان؟ صحيح. إِنما يجب أَن نكونَ مستحقِّين لفْتَتَهُ إِلينا كي نستاهلَ عطْفه، فلَن يحمينا ونحن متفرِّقون استزلامًا لأَيِّ هنا وأَيِّ هناك..
هكذا نُنْقذُنا ونُنْقذُ وطننا، واثقين به قويًّا حتى وهو على الصليب، مؤْمنين بأَنه في اليوم الثالث سوف يقوم… ويُدحرج الحجر.