التكنولوجيا مُقابل الإيديولوجيا: مَن يَربَح؟ | بقلم البروفسور بيار الخوري
فكرةُ أنَّ التكنولوجيا لا يُمكِنُ مواجهتها بالإيديولوجيا هي إشكاليةٌ تتطلّبُ تحليلًا يَستندُ إلى وقائع الحرب الإسرائيلية على لبنان، سواءَ في السياقاتِ الماضية أو الحالية. تلك الحروب كشفت عن أنَّ التكنولوجيا والعقيدة كلاهما عوامل حاسمة، لكنّهما تعملان بشكلٍ مُتقابِلٍ ومُتكامِلٍ في تحقيقِ التوازُنِ الإجمالي في الحروب.
إسرائيل تعتمدُ بشكلٍ كبيرٍ على التكنولوجيا العسكرية المُتقَدِّمة لتعزيزِ قدرتها في المواجهة. من الطائرات المُسَيَّرة وأنظمةِ الدفاعِ الجوي مثل “القبة الحديدية” ومقلاع داوود ومنظومة “ثاد”، إلى الاستخبارات السيبرانية والضربات الدقيقة، تُقَدِّمُ التكنولوجيا لإسرائيل تفوُّقًا واضحًا في الكشفِ المُبكِرِ عن الأهداف، تنفيذِ الضرباتِ الدقيقة، وإدارةِ العمليّاتِ الميدانية بفعالية.
في المُقابل، يعتمدُ “حزبُ الله” على عقيدةٍ قتاليةٍ تَرتَكِزُ على الإيمانِ العميق بقضيّته، مما يُعزّزُ الروحَ القتالية ويُحَرِّكُ المُقاتلين نحو التضحية والصمود. هذه العقيدة، مَدعومةٌ باستراتيجيةِ حربِ العصابات، تجعلُ من الصعبِ على جيشٍ تقليدي مثل الجيش الإسرائيلي أن يُوَظِّفَ كاملَ قدراته. لقد أظهرَ “حزب الله” قدرةً لافتةً على توظيفِ التكنولوجيا البسيطة بطُرُقٍ مُبتَكَرة، مثل تطوير صواريخ محلّية الصنع واستخدام طائراتٍ مُسَيَّرة متواضعة الكلفة لتحقيقِ تأثيراتٍ استراتيجية.
الحربُ الإسرائيلية على لبنان قدَّمَت نماذجَ واضحة لهذا التفاعُلِ بين التكنولوجيا والعقيدة. فرُغمَ التفوُّقِ التكنولوجي الإسرائيلي، تَمَكَّنَ “حزب الله” من إلحاقِ خسائر كبيرة بفضلِ صواريخ الكاتيوشا التقليدية والمُسَيَّرات الإنقضاضية، وإعادةِ تشكيلِ الداخل الإسرائيلي كجبهةٍ مُستَهدَفة. كما إنَّ قدرةَ الحزبِ على الحفاظِ على قنواتِ الاتِّصالِ والتواصُل الداخلي، رُغمَ الهجمات السيبرانية الواسعة والهجمات الميدانية، ساهَمَت في إضعافِ الجانب الإسرائيلي.
التكنولوجيا الإسرائيلية، وإن كانت فعّالةً في استهدافِ البنية التحتية ل”حزب الله” والاستهداف الواسع لهيكل القادة السياسيين والميدانيين، غالبًا ما ارتَبطَت بتدميرٍ واسعِ النطاق للقرى والبنية المدنية، وهو أسلوبٌ قديمٌ يعودُ إلى مفاهيم الحرب التقليدية وليس بالضرورة معيارًا للتفوُّقِ التكنولوجي.
بينما تُوَفِّرُ التكنولوجيا ميزةً حاسمة في المدى القصير، فإنَّ الإيديولوجيا تُعزّزُ قدرةَ المُقاتلين على الصمود على المدى الطويل. ومع ذلك، تحتاجُ الإيديولوجيا إلى الابتكارِ والتَكَيُّفِ مع المُعطَياتِ الميدانية لتحويلها إلى قوّةٍ فعلية. “حزب الله” نجحَ بالحدِّ الأدنى في تحقيقِ هذا التوازُن، مُستَفيدًا من تقنياتٍ بسيطةٍ بطُرُقٍ غير تقليدية لتعويض نقصِ الموارد التكنولوجية المُتقدِّمة.
اللافت أنَّ الصواريخَ الدقيقة ذات القدرةِ التدميريةِ الواسعة التي يمتلكها “حزب الله” لم تُستخدَم في المعركة حتى الآن، مما يطرحُ تساؤلات حولَ إدارةِ الموارد الاستراتيجية من قبل الحزب. ورُغمَ ذلك، تمكّنَ الحزبُ من مواجهةِ التفوُّقِ التكنولوجي الإسرائيلي والقدرة التدميرية، التي لا تأخُذُ في الاعتبارِ القانونَ الإنساني الدولي، مُحَقِّقًا توازُنًا ميدانيًا غير مُتَوَقَّع.
لا يُمكِنُ للإيديولوجيا وحدها أن تتغلَّبَ على التكنولوجيا بشكلٍ دائم، لكنها قادرةٌ على تقليصِ الفجوةِ إذا ما اقترنت باستراتيجياتٍ مُبتَكَرة. التفوُّق التكنولوجي الإسرائيلي يمنح الدولة العبرية أفضلية على المدى القصير، لكنه يواجِهُ تحدّياتٍ أمامَ استراتيجياتٍ طويلة الأمد ل”حزب الله”، التي تهدفُ إلى استنزافِ الميزةِ التكنولوجية وتحقيقِ توازُنٍ ميداني اذا ما استمرّت هذه الحرب.
في نهايةِ المطاف، الحروبُ ليست مُجرّدَ صراعٍ بين التكنولوجيا والإيديولوجيا، بل بين إرادتين. الطرفُ الذي يتمكّنُ من تحقيقِ التوازُنِ بين الإنسانِ والألة، والتَكَيُّفِ مع ظروفِ المعركة، هو الذي يملكُ فُرَصًا أكبر في الاستمرارية.
ينشر المقال بالتزامن مع أسواق العرب.