لا “ذكْرى” الاستقلال بل “اليوم الوطني” | بقلم هنري زغيب
منذ 1943 يسُود التعبير السنَوي “ذكْرى الاستقلال” أَو “عيد الاستقلال” عن “يوم 22 تشرين الثاني” وما يُصاحبه وما يَشهدُه من احتفالات وطنية في لبنان والـمَهاجر اللبنانية في العالم..
سوى أَنَّ لتعبير الـ”ذكرى” والـ”عيد” احتمالاتٍ مختلفةً تَتَفاوت بين مؤَيِّدٍ طوباويٍّ مُؤْمنٍ بها، ومُشَكِّكٍ شديدِ الواقعية يتساءَل: أَين هو “العيد”؟ و”الاستقلال” عمَّن؟ وإِلى أَيِّ حدٍّ يمكن القول إِنَّ لبنان، بعد 1943، “سيِّدٌ حُرٌّ مستقلٌّ” كما يردِّد الكثيرون بعاطفة وطنية أَو بِــبَبَّغاوية براغْماتية؟ فالمتتاليات السياسية والعسكرية والديموغرفية لم تترك لبنانَ يهْنأُ إِلى “استقلاله” الناجز سوى فترات متقطعة تساقطت تباعًا عليها أَحداثٌ وحوادثُ فوق احتمال تكوينه اللوجستي: بعد خمس سنوات على “استقلاله” نال من التهجير الفلسطيني (1948) ما أَثَّر تدريجًا على ديموغرافياه.. وبعدها بعشر سنوات (1958) كانت حوادثُ شلَّعت هناءته الـمُحقَّة.. وما عاش سنواتٍ مزْهرةً ربيعيةَ الازدهار حتى حلَّت عليه (1975) نقمةُ حربٍ ما زالت مفاعيلُها تتناسل بين حُكْم ضعيفٍ، وسياسيين انضمُّوا إِلى معسكرات الأَمر الواقع، فخلْخلُوا بيئَتَه الأَصلية إِذ تداخلَت فيها بيئاتٌ طارئة من دوَل الجوار، قريبِه والأَوسط، وأَخذَت دولتُه تتفكَّك تَواليًا، وتتفتَّت عهدًا بعد عهدٍ ورئاسةً بعد رئاسة، وشعبُه يحتمل، وشعبُه يتلقَّى، وشعبُه يَــيْأَس ويُهاجر، وشعبُه يَصمُد حتى الإِنهاك إِنما يبقى فيه مَن لا يكفُر بالأَرض ولا بالانتماء ولا بالهوية..
هذا الأَعلاه يجعل “ذكرى” الاستقلال تعني دولةً استقلَّت عن دولة فرنسا سنة 1943، ثم راحت دولٌ أُخرى تُضْعِفُ استقلالها انتدابًا أَو وصايةً أَو احتلالًا أَو وجودًا غيرَ لبناني، فضَعُفَ معنى الـ”عيد” أَو الـ”ذكرى”..
وإِذا للدولة اللبنانية، كما لسواها من الدوَل، فتراتٌ واحتمالاتٌ ومُتغيِّراتٌ بتَغَيُّر السُلطة التي تُديرها، فالثابتُ الدائم – أَيًّا يكُن أَهلُ السُلطة في الحُكم وفي أَيِّ فترةٍ من مسيرة الدولة – هو الوطن اللبناني بمفهومه الشامل أَي: مجموع أَهلِه على أَرضه ومدى مَهَاجره في العالم..
هذا الوطن الدائم، سابقًا وراهنًا ولاحقًا، لا يتأَثَّر بتَغيُّر أَهل السلطة ولا بتفاصيل مفاصل الدولة، ولذا هو أَكبر من الدولة ديموغرافيًا وجغرافيًّا وتاريخيًّا وحضاريًّا وانتشارًا في الدنيا..
الدولةُ اللبنانية محصورةٌ إِداريًّا وسياسيًّا ضمن حدود مساحتها الجغرافية (10452 كلم2) ولا سُلطةَ لها على شبر واحد خارج جُغرافياها. أَمَّا الوطن فسائر بأُبَّهَةٍ في الزمان أَيًّا يكُن الحُكْم وأَهلُ الحُكْم على أَرضه الأُم..
من هنا، وانحناءً أَمامَ عظَمة الوطن اللبناني في لبنان والعالَم، وكي يعني الاعتزازُ به أَبناءَه على أَرضه وأَيِّ أَرضٍ لدى أَيِّ دولةٍ في العالم، وكي تنتفي التساؤُلات، بريئُها والشكَّاك، حول “عيد” أَو “ذكرى” استقلال لبنان عمَّن، وممَّن، وبفضْل مَن، فلْيَكُن 22 تشرين الثاني “اليوم الوطني” اللبناني فينطبق عليه وطنيًّا وعمليًّا نشيدُه “كلُّنا للوطن” يُصلِّيه بخشوعٍ وإِيمانٍ أَبناؤُه في دولته على أَرضه كما في أَيٍّ من مَهاجره في دُوَل العالم..
وعلى صورة “اليوم الوطني” لدُوَلٍ يحتفل به لبنان مع سفاراتها الـمُعتمَدَة لديه، ويحتفل به أَبناءُ هذه الدول على أَرضها، فَلْنَجْعل “22 تشرين الثاني”: “يوم لبنان الوطني” أَو “اليوم الوطني اللبناني” محترمين استقلالًا لَه فعليًّا تامًّا ناجزًا آتيًا حين تَنْبَني فيه دولةٌ تُديرُها سُلطة مسؤُولة يكون أَهلُها أَسيادَ قرارهم، مستقلِّين غير مرهونين لأَيِّ جهة خارجية، أَنقياءَ الانتماء، يعملون للهوية اللبنانية دون سواها، فيستحقُّون أَرزيًّا أَن يكونوا مسؤُولين عن شعب لبنان اللبناني.
نشر المقال في “النهار” أولا.