سواءٌ كانَ الأمرُ يتعلّقُ بالصعود الفوضوي لدونالد ترامب وعودته إلى رئاسة الولايات المتحدة أو الغَضَبِ المُدَمِّرِ للحروب على طول حدود الاتحاد الأوروبي والشرق الأوسط، فإنَّ السمةَ المُميّزة لعصرِ وسائل التواصل الاجتماعي هي المَيلُ إلى الادّعاءِ بأنَّ لحظاتَ الأزمةِ المُعاصِرة لا سابقة تاريخية لها. غالبًا ما يكون هذا القلق الواسع النطاق من أنَّ النظامَ العالمي غارقٌ في تغييراتٍ جذريةٍ مصحوبًا بتعبيراتٍ عن القلقِ بشأن التفتّت والتَحوُّل المُفتَرَضَين للديموقراطيات إلى “غُرَفِ صدى” حيث تَغلُقُ الفصائل الاجتماعية نفسها عن بقيّةِ المجتمع.
مع ذلك، فإنَّ الحماسَ الذي يُعبّرُ به العديد من المُعلّقين عن مثل هذا القلق بشأنِ مستقبل المُناقشة العامة يتجاهَلُ كيفَ كانت الجهودُ التي تبذلها المجتمعات المختلفة لبناءِ مساحاتها الاجتماعية الخاصة جُزءًا لا يتجزّأ من الحياة الديموقراطية منذ فترةٍ طويلة قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي.
كانت المخاوفُ من أنَّ التنافسات الفئوية سوف تُدمّر حتمًا الوحدة الاجتماعية موضوعًا مُتَكرِّرًا بين الحكّام والفلاسفة منذ تشكّلت أقدم الدول. وقد أدّى الدورُ الذي لعبه الجمهور الأوسع في الحياة السياسية في دولِ المدن اليونانية القديمة والجمهورية الرومانية، كما علّمنا التاريخ، إلى اندلاعِ أعمالِ عُنفٍ مُنتَظِمة بين أنصارِ شبكات المحسوبية المختلفة. وتُظهِرُ أعمالُ الشغب المُتَفشّية بين مُشَجّعي فرق سباق المركبات “الزرق” و”الخضر” في الإمبراطورية البيزنطية في القرن السادس والنزاعات المُميتة بين الموالين البابويين “الغويلفيين” وأنصار الإمبراطورية الرومانية المقدّسة ” الغيبلينيين” في إيطاليا في القرن الثاني عشر كيف استمرّ انقسامُ المجتمعات إلى فصائل متنافسة في تشكيلِ لحظاتِ الأزمة لقرونٍ عدة قبل ظهور التكنولوجيا التي تُحدّدُ الآن الحياة السياسية في القرن الحادي والعشرين.
إلى جانب الفصائلية السياسية، أدت الخلافات اللاهوتية الشرسة إلى تأجيجِ الانقسامات في المجتمعات المسيحية في جميع أنحاء أوروبا والبحر الأبيض المتوسط منذ القرن الثالث فصاعدًا. في غضون مئة عام من ظهور الإسلام كقوة دينية قوية في أوائل القرن السادس، أدّت النزاعات على الخلافة والخلافات العقائدية والفقهية إلى حربٍ وَحشيةٍ بين الجماعات الطائفية المتنافسة. وبلغت فترات الانقسام الديني المُتكرّرة في أوروبا ذروتها في القرن السادس عشر، حيث أثبتت تقنيات الطباعة الجديدة أنها محورية لجهود مارتن لوثر وغيره من علماء الدين المُنشقّين لحشدِ الدعم للإصلاح.
لقد عزّزت الطريقة التي تصاعدت بها مثل هذه التوتّرات الدينية إلى صراعاتٍ مُدمّرة، مثل حرب الثلاثين عامًا في القرن السابع عشر، من المخاوف بشأنِ التهديدات الفصائلية للوحدة. وأدّت الانقسامات الاجتماعية الوحشية التي تفاقمت بسبب الثورة الأميركية إلى دفعِ جورج واشنطن إلى الملاحظة والقول بأنَّ “الهيمنةَ المُتبادَلة لفصيلٍ على آخر … هي في حدِّ ذاتها استبدادٌ مُخيف”. ومع ظهور الأحزاب السياسية الجماهيرية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، انهارت الأنظمة الدستورية المُصمَّمة لاحتواءِ الخلافات حول الإيديولوجية وتوزيع موارد الدولة في كثيرٍ من الأحيان في مواجهة التنافسات الحزبية التي يُمكنُ أن تحشدَ مئات الآلاف من الرجال للقتال والموت، سواء في معركة غيتيسبيرغ (بنسلفانيا، أميركا) أو حرب مَلَغا (إسبانيا).
وكما كان الانقسامُ الفصائلي دائمًا جُزءًا من الحياة السياسية، فإنَّ المساحات الاجتماعية المُغلقة حيث تبني مثل هذه الحركات شعورًا مُشتركًا بالهوية كانت سمةً متكررة للمجتمعات التي يُمزّقها التعصّب الحزبي المتفشّي. وكانت النزاعات اللاهوتية الشرسة المبكرة في المسيحية والفقهية في الإسلام يُغذّيها في كثيرٍ من الأحيان الدعاة المتجوّلون الذين اخترعت جماهيرهم تقاليدهم الدينية الخاصة. خلال أوائل العصر الحديث، تم تأجيج الكراهية الشديدة بين الطوائف البروتستانتية وأولئك الذين ظلّوا موالين للكنيسة الكاثوليكية من خلال استخدام تكنولوجيا الطباعة لتوزيع المنشورات الجدلية.
خلال فترات التطرّف هذه، مكّنَ الضغطُ الذي مارسته التغيّرات الاجتماعية والتكنولوجية الفصائل من تطويرِ أشكالٍ مُتميّزة من الاتصال الإعلامي لتعزيزِ الشعورِ بالولاءِ بين أنصارها. لقد حوّلت الأحزابُ السياسية الجماهيرية التي نشأت خلال فترة التغيُّر الاقتصادي السريع في القرن التاسع عشر مثل “غرف الصدى” هذه إلى أنظمةٍ تنظيمية مُعقّدة يُمكنُ أن تشملَ مُجملَ الحياة اليومية للمجتمع. تمَّ بناءُ قوّة آلات الأحزاب التي استمرّت حتى تسعينيات القرن العشرين -مثل الديموقراطيين الاجتماعيين في ألمانيا، ويمين الوسط الإيطالي والحزب الديموقراطي في المدن الأميركية الكبرى- حول هياكل المحسوبية التي شملت الصحف الموالية، والأندية الرياضية، والشركات، والكنائس، وحتى مؤسسات الشرب التي يمكن من خلالها تشكيل النظرة العالمية للأنصار من القاعدة الشعبية.
على الرُغم من أن ذروة القرن العشرين لهذا الشكل من سياسات الحركة الجماهيرية يُنظَرُ إليها الآن بحنين من قبل العديد من المراقبين، فإنَّ الولاءات الحزبية المكثّفة التي عزّزتها “غُرف الصدى” قبل الرقمية غالبًا ما تحوّلت إلى نوباتٍ من العنف ضد الأعداء الدينيين أو الطبقيين أو العرقيين المفترضين. في الوقت الذي لا يقرأ الموالون للأحزاب إلّا صحيفة أو اثنتين من الصحف التابعة لحركتهم الخاصة، فإنَّ الفجوة في الفهم والنظرة للعالم بين القواعد الأساسية للفصائل المتنافسة قد تكون أوسع من انقسامات الحرب الثقافية التي تستهلك وسائل التواصل الاجتماعي الآن.
في حين أنَّ الأفراد حتى في أكثر مساحات الإنترنت إحكامًا اليوم لا يزالون على اتصالٍ بوجهاتِ نظرٍ مختلفة من جميع أنحاء العالم على وسائل التواصل الاجتماعي، فإنَّ النظامَ المعلوماتي الذي يُغذّي الموالين للحزب في ثلاثينيات أو سبعينيات القرن العشرين كان يجمع بين الراديو أو التلفزيون الجماهيري ووسائل الإعلام المطبوعة التي تعكسُ نظرةً عالمية إيديولوجية أضيق. بالنسبة إلى العديد من ذوي التعليم المحدود في الطبقة العاملة أو المجتمعات الريفية، فإنَّ الافتقارَ إلى الموارد للوصول إلى ثقافةٍ أدبية أوسع نطاقًا يُعزّزُ الولاء للفصائل الإيديولوجية أو الدينية التي توفر منظّماتها المجتمعية ومدارس الأحد والجمعة فرصًا غير مُتاحة في أيِّ مكانٍ آخر.
بعد 30 عامًا من التحميل الزائد للمعلومات، غالبًا ما يكون من الصعب على العديد من المراقبين أن يتذكّروا مثل هذه البيئة قبل الإنترنت حيث كان لدى معظم الناس وصولٌ محدود إلى الأخبار والمعلومات. على الرُغم من أنَّ انتشارَ “تلفزيون الكايبِل” (تلفزيون باشتراك) في الثمانينيات والتسعينيات كان بمثابة توسّعٍ كبير في الوصول إلى مثل هذه البرامج، إلّا أنَّ مجموعة الخيارات المتاحة للمستهلكين كانت لا تزال مُنَسَّقة من قبل المحررين والمديرين العاملين لدى حفنةٍ من محطات البث العامة والخاصة. ولكلِّ الحديث عن “غرف الصدى” والتضليل في عالم العام 2024، فإنه حتى العام 1984 كان الأمر يستغرق شهورًا لتحديد نقاط البيانات الرئيسة ذات الصلة بأزمةٍ جيوسياسية التي يُمكِنُ لمستخدم الإنترنت العادي الآن جمعها معًا في بضع دقائق.
بدلًا من بناءِ غُرفِ صدى إيديولوجية وانتشار المعلومات المُضلّلة، يُمكنُ العثورُ على التأثيرات التحويلية لوسائل التواصل الاجتماعي في السرعة والنطاق العابر للحدود الوطنية التي من خلالها يُمكنُ لهذه الديناميكيات أن تخلقَ روابطَ -وانقسامات- بين الفصائل في أجزاء مختلفة من العالم. وفي حين ظلّت فُرَصُ الاتصال المباشر بوجهاتِ نظرٍ خارج البيئة المحلية أو الإقليمية محدودة بالنسبة إلى العديد من الناس حتى أواخر القرن العشرين، فإنَّ التبنّي الجماعي لوسائل التواصل الاجتماعي جعلَ فجأةً وجهاتَ نظرِ الفصائل الكثيرة والمُتعددة في جميع أنحاء العالم مَرئية للجميع. وعلى نحوٍ مماثل، في حين كانت نظريات المؤامرة دائمًا سمةً مُتكرّرة للحياة السياسية، فإنَّ السرعة التي يُمكِنُ أن ينتشرَ بها مثل هذا التضليل على وسائل التواصل الاجتماعي جعلت غالبًا ديناميكية ما تتكشّف تحت السطح أكثر وضوحًا لجمهور أوسع.
لا شكَّ أنَّ هذه التغييرات في الوصول إلى الفصائل والتضليل ونطاقها وظهورها مُقارنةً بعصرِ ما قبل الإنترنت كانَ لها تأثيرٌ عميق. إنَّ وسائلَ الإعلام الاجتماعية، بدلًا من توفيرِ مساحةٍ للنقاش الهادئ، تُوَلِّدُ صداماتٍ مستمرّة بين أنصار الفصائل المتنافسة الذين لولا ذلك لما كان لديهم أيّ اتصال مع بعضهم البعض، الأمر الذي يُقوّضُ نوعَ التسامُح القائم على مَبدَإِ “عِش ودَع غيرك يعيش” اللازم لدعم الديموقراطيات المستقرّة. إنَّ مثلَ هذا الجو من التعبئة الدائمة على الإنترنت بين الموالين الحزبيين الذين ربما كانوا ليختبئوا في “غرفة صدى” ما قبل الإنترنت يجعل من الصعب على زعماء الحركات الانخراط في إبرامِ الصفقات اللازمة لتحقيق نتائج في نظامٍ ديموقراطي.
في هذه البيئة الاجتماعية المتنوّعة، قد تقترب طموحات أباطرة التكنولوجيا مثل مارك زوكربيرغ وإيلون ماسك لتطوير “تطبيقات كل شيء” التي تجتذب كل مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في بعض الأحيان بشكلٍ غير مريح من وجهةِ نظرٍ شمولية للتقدّم. وبصرف النظر عن مدى إشكالية وجود “غرف صدى” لاحتواءِ التطرّف السياسي أو بناء الإجماع الاجتماعي، فإنَّ قدرة الثقافات الفرعية الفئوية على تطوير مساحاتها الاجتماعية الخاصة هي نتيجةٌ ثانوية لا مفرَّ منها للحريات التي صُممت الأنظمة الديموقراطية لحمايتها. والواقع أن هناك شيئًا مخيفًا إلى حدٍّ ما في الطريقة التي أشار بها ماسك علنًا إلى “ويبو” (Weibo) وغيره مما يسمّى بالتطبيقات الفائقة التي تُهيمن على السوق الصينية تحت الإشرافِ المُحكَم للحزب الشيوعي الصيني كنموذجٍ لخططه الخاصة لإعادة تشكيل وسائل التواصل الاجتماعي العالمية.
بدلًا من النظر إلى ظهور “غرف الصدى” باعتبارها لعنةً اجتماعية، فإنَّ النهجَ الواقعي نحو دعم أسُس الديموقراطيات المتذبذبة اليوم يحتاج إلى التركيز على إدارتها بهدوء من خلال مؤسّسات قوية. إن مدى تحطيم النزعة الفئوية لقدرة الحكومات الأميركية على الحفاظ على إجماعٍ استراتيجي طويل الأمد لا يعكسُ تأثير غُرف صدى وسائل الإعلام الاجتماعية، بقدر ما يعكس الفشل الأساسي للنخب السياسية في البلاد في تحقيق التوازن بين الاختلافات الثقافية الحتمية بين الفئات الاجتماعية. ولكي تتمكن الأنظمة الديموقراطية في الغرب والعالم الأوسع من البقاء على قيد الحياة في ظل الفوضى التي أحدثها الحقد الشعبوي، فسوف يتعيّن على مواطنيها إيجاد طرق جديدة لاستخلاص القوّة من خلال التنوُّع.