لا يمكن أن ننكر الدور الهائل الذي لعبته وسائل التواصل الاجتماعي في حشد وتنظيم جموع المتظاهرين في جميع الأنحاء التي شهدت بعض الموجات الاحتجاجية والتي طالبت جميعها بتنحي أنظمة الحكم فيها. ولعل أحدث مثال على ذلك هو إيفو موراليس الرئيس اليساري لدولة بوليفيا، والذي تم عزله تحت ضغط من المظاهرات الشعبية.
وفي أماكن متفرقة من العالم أيضا ينهض الشعب ضد النظام مثل لبنان وشيلي والإكوادور والأرجنتين وهونغ كونغ والعراق وبريطانيا، ومنذ أشهر قليلة قامت الاحتجاجات أيضا في كل من السودان والجزائر. ونجحت العديد من التحركات الشعبية في الإطاحة بأنظمة الحكم الفاسدة. حتى في الولايات المتحدة الامريكية نفسها فقد ثار الناس ضد سياسات إدراة ترامب منذ عام 2017
وعلى الرغم من أن ما يشهده العالم حاليا من موجات واسعة من الاحتجاجات الشعبية السلمية يرجع في الأساس إلى قوة السوشيال ميديا إلا أن تلك التظاهرات والتجمعات قد يصعب تهدئة وتيرها وإرجائها خطوة إلى الوراء وبخاصة مع التصاعد المستمر لتلك الاحتجاجات المتواصلة في جميع أنحاء العالم. والجدير بالذكر أن تلك الاحتجاجات تنطوي على بعض التحديات والتي قد لا تمكن من تحقيق سوى الحد الأدنى من متطلبات قصيرة الأجل.
ولعل هذا يبدو منطقيا في ظل غياب القيادة والتنظيم، وسوف نستعرض معا خلال هذا المقال الأسباب المفسرة لذلك.
العنف في مفترق الطرق مع الحركات السلمية
قد تصطدم التحركات الشعبية السلمية ببعض الكيانات المحرضة على العنف، بمعنى أنه قد تظهر بعض العناصر المتطرفة التي تندس بين جموع المتظاهرين السلميين بهدف إفشال الحركات الشعبية وإضفاء سمة الفوضوية عليها. وقد أشارت بعض الأبحاث إلى مسألة انحراف بعض التظاهرات أحيانا في اتجاه حروب الشوارع واستخدام بعض الأدوات القتالية البدائية الخطرة كزجاجات المولوتوف، مما يزيد المشهد تعقيدا ويصبح من الصعب على الحكومة حينئذ القيام بتسوية الأمور.
وتشير بعض الأبحاث الأخرى إلى أن ظهور العناصر المحرضة على العنف قد يتسبب في إفشال الحركات الشعبية على المدى القصير والطويل وذلك بسبب صعوبة ضم المعارضين إلى صفوف المتظاهرين ومشاركتهم في مطالبهم الاحتجاجية. إلا أن عنصر التنظيم الجيد قد مكن بعض الحركات الشعبية على مر التاريخ من التأثير على المواقف السياسية في أماكن عدة دون استخدام العنف. كما نجحت حركات أخرى رغم وجود العنف من تحقيق مطالبها من خلال الحفاظ على أعدادها من المشاركين ولفت الأنظار عن القلة من العناصر التي تلجأ إلى استخدام العنف.
ولكن لابد من التأكيد على أنه كلما اتسع نطاق الحركات الاحتجاجية، كلما ازدادت فرصة اندساس العناصر المفسدة، وفي حال تدخل قوات الأمن لإخماد الشغب وعرقلة بعض المحرضين لمسار التحركات السلمية، فعندئذ قد يصعب التصدي لأعمال العنف.
تقنيات الاتصال الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي .. في خدمة المظاهرات أحياناً، وضدها في أحيان أخرى
تتيح شبكات التواصل الاجتماعي إمكانية نشر ومشاركة الأفراد بين قطاعات عدة من البشر، وبالنسبة للمظاهرات الشعبية، فإن استخدام السوشيال ميديا قد ساعد على حشد الجموع وتوحيد الموقف، وتشير الأبحاث الحديثة إلى أن الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي تجعل الاحتجاجات أكثر عرضة للنمو بمجرد إنطلاقها.
ولكن على الجانب الآخر، فقد تصبح الشبكات الاجتماعية عائقا أمام تحقيق الأهداف الشعبية وحركات التغيير طويلة الأجل، وذلك لأنها تعمل على الحشد السريع والغير منظم للجموع الشعبية في ظل غياب وجود أساس للمشاركة المستمرة والتي تتطلب فرصا للتخطيط والتنظيم وإعداد استراتيجية واضحة.
والأكثر منذ ذلك أن الحكومات قد تستخدم الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي أحيانا في تقويض الاحتجاجات الشعبية. كما أن السوشيال ميديا قد تتسبب أيضا في نشر وتناقل المعلومات الخاطئة والتي قد تحدث نوع من البلبلة والفوضى وإثارة الرأي العام.
في الأنظمة الديكتاتورية ..تظهر الحركات المناوئة للمظاهرات الشعبية
عادة ما تعمد الأنظمة السلطوية إلى حشد مناصريهم في الشوارع كنوع من مواجهة المتظاهرين المعارضين للنظام مما قد يتسبب في نوع من الاضطرابات الداخلية. وغالبا ما تتسبب المواجهات بين الفريقين في اندلاع بعض أعمال العنف. ففي هونغ كونغ، اشتبك المتظاهرون المؤيدون للديمقراطية مع غيرهم من الموالين للنظام في بكين. وفي لبنان، يتصادم المؤيدون للحكومة مع المتظاهرين السلميين . وهنا يمكن القول بأن الحركات الشعبية المناهضة للنظام قد تتمكن من التغلب عن الحشود المنافسة لها في ظل تفوق أعداد الفريق الأول، لكن الحركات الشعبية دون خطة لاحتواء الاحتجاجات المضادة، قد تخاطر بفقدان الكفاح العام من أجل الشرعية.
الحركات الشعبية المفتقدة إلى عنصر القيادة تلجأ إلى إدراة المفاوضات من الشارع
تميل معظم التظاهرات الأخيرة إلى حمل لواء المقاومة دون قيادة حقيقية. ربما قد ينطوي ذلك على بعض المزايا التكتيكية، فعادة ما تستفيد هذه الحركات من بعض أنماط القيادة الجماعية والتي قد تأتي في صورة مجالس أو تعاونيات أو غيرها. حيث تتولى تلك المجالس مهمة التعبير عن مطالب الحركة والتفاوض نيابة عنها. وبالحديث عن القيادة الفردية، فقد تمتع عدد من القادة على مر التاريخ بكاريزما خاصة مثل مارتن لوثر وغاندي والذين نجحوا في خلق قاعدة من الخلفاء المتمسكين بالنسق الفكري للقائد، الأمر الذي جعل مسار نضالهم الثوري يسير ويستمر بصورة متناسقة مع أهداف الحركة.
الحركات المنظمة هي أكثر قدرة على مقاومة ردود الفعل الحكومية. حيث يبدو أن الحركات بلا قيادة أقل فعالية في المناورة حول القمع الحكومي ، والحفاظ على الانضباط اللاعنفي ، وإدارة جولات ناجحة مع الحكومة. و نتيجة لذلك، فإنه في حال قيام الحكومة بتقديم بعض التنازلات ، فإن الحركات المفتقدة لعنصر القيادة تميل إلى رفع سقف مطالبها بصورة مستمرة. على سبيل المثال ، على الرغم من موافقة الحكومة اللبنانية على التغييرات الاقتصادية الرئيسية ، تصاعدت الاحتجاجات إلى المطالبة بإصلاح النظام السياسي في البلاد.
كما تمنح الحركات القائمة دون قيادة الفرصة لغيرها من الحركات الأكثر انضباطا لتصدر المشهد. ففي مصر تمكنت الجماعة المعارضة الأكثر تنظيما ” الإخوان المسلمون” إلى حد كبير من إنجاح ثورة 25 يناير 2011 ونجحت بعد ذلك في الفوز بالانتخابات التالية للثورة بعد الإطاحة بنظام حسني مبارك. لكن الانقلاب المناهض لحكم مرسي والذي بدا أكثر تنظيما حيث تألف من الجيش المصري والأحزاب الشعبية قد تمكن بعد ذلك من التخلص من حكم الإخوان.
وعليه فإنه يمكن القول بأن الحركات الشعبية السلمية تنطوي على أكثر من مجرد احتجاجات في الشوارع. لذا فإنه قد يصعب الاستغناء عن القيادة والتنظيم من أجل تحقيق المسار الناجح للتحركات الشعبية.
رابط المقال الأصلي اضغط هنا
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا