لبنان الخالد على منصة عالَمية | بقلم هنري زغيب
لا جِدالَ بأَن جريدة “لو مُونْد” الفرنسية ومجلة “ناشيونال جيوغرافيك” الأَميركية هما من أَكبر وأَهم المنصات الصحافية في هذا العصر. فكيف إِذا اجتمَعتَا معًا في مطبوعة واحدة؟ ها هما، ضمن سلسلتهما “التاريخ والحضارات”، اجتمَعَتَا في عدد شهري واحد (رقم 113 عن شباط 2025)، غلافه عن لبنان، ويضمُّ 100 صفحة غنية بالمواضيع الحضارية والتاريخية المختلفة والوثائق الثقافية النادرة، وبينها – وهو ما يَهُمُّنا هنا من هذا العدد – 27 صفحة عن لبنان (من 36 إِلى 63).
غلاف العدد: صورة من ساحة البرج القديمة في الخمسينات، مع عنوان كبير: “لبنان الأُمَّة المستحيلة”. وهو العنوان الداخلي كذلك لملفٍّ خاص تتصدَّره غلافًا صورةٌ كبيرة لكاتدرائية القديس بولس للروم الكاثوليك (حريصا)، مشرفةٌ على خليج جونيه وخليج بيروت وما يمتد منها بحرًا ومناطقَ داخلية في تناسُق بديع. الموضوع الرئيس: حوار مع المؤَرخ الفرنسي هنري لورنس (الاختصاصي بالعالم العربي وأُستاذ التاريخ حاليًّا في الـ”كوليج دو فرانس”) يُبدي فيه إِعجابه العالي من دينامية الشعب اللبناني الخلَّاق الذي مرَّ في أَصعب الظروف التاريخية القاهرة المفكِّكة الأَوصال منذ كان شعبَ فينيقيا وسيطرة الرومان عليه، ثم شعبَ جبل لبنان وسيطرة العثمانيين عليه، ثم شعبَ لبنان الكبير وسيطرة المحتلين والمنتدبين والأَوصياء عليه، وعلى رغم ما عاناه من حروب داخلية وحدودية وإِقليمية بمآسيها وتفجيراتها واغتيالاتها، ما زال نابضًا ناشبًا في التاريخ المعاصر شعبًا يخيَّل للكثيرين أَنه أُمَّةٌ مستحيلة لكنه متشبِّثٌ بأَرضه وتاريخه ومكوِّناته حتى ليبدو تفكيكُها هو المستحيل.
بعد هذا الحوار المهم جدًا من 10 صفحات مع ذاك المؤَرخ، تتوالى المواضيع في ملفِّ لبنان: من مقال “فسيفساء الطوائف في لبنان” للكاتب ماكسيم هنرييه (الاختصاصي في التاريخ المعاصر)، إِلى مقال “جذور لبنان العريقة منذ أَسلافنا الفينيقيين” للكاتب فرنسيس جُوانيس (أُستاذ التاريخ القديم في جامعة باريس الأُولى – البانتيون السوربون) وفيه يحلِّل كيف الفينيقيون – البحارةُ العنيدون والتجَّارُ المغامرون ومكتشفو الأَبجدية وناشروها في أَرجاء المتوسط – كانوا فجرَ تاريخ لبنان منذ الأَلف الثاني قبل الميلاد. ويأْتي بعده مقال “فْرنسا ولبنان: تجاذُبٌ أَلْفيّ” للكاتبة والصحافية كريستيان رانسيه تُثْبتُ فيه أَن العلاقات اللبنانية الفرنسية لم تولد في القرن التاسع عشر بل ترقى إِلى أَيام شارلُمان في القرن التاسع، وتحديدًا منذ الخليفةُ العباسيُّ هارون الرشيد أَوكل إِلى شارلمان حراسةَ الأَراضي المقدَّسة في لبنان وفلسطين. ثم يأْتي ختامًا هذا الملفَّ عن لبنان، مقالُ الكاتبة سابين محاسب صليبا (الباحثة في “المركز الوطني الفرنسي للأَبحاث العلمية”) عنوانه: “لبنانُ بلدُ الأَديار قلاعِ الله”.
هي ذي نبذةٌ وميضةٌ عن ملف لبنان في هذا العدد العالَمي الصادر عن مطبوعتين عالَميَّتَين (“لوموند” و”ناشيونال جيوغرافيك”) ظهر لبنان فيه وطنًا عريقًا في التاريخ والحضارة، شعبًا وأَصالةً وجُذُورًا وتراثًا روحيًّا وعَلمانيًّا ساطعًا على جبين التاريخ.
وإِنما هذا هو لبنان الحقيقي، أَعني: لبنان الوطن الخالد. وبينما هو، في هذا العدد العالَميّ الخاص، يُشرق بإِرثه الحضاري على ملايين القراء في العالم، نجد “بيت بو سياسة” فيه يقزِّمونه إِلى كتَل وتكتلات وتشكيلات نيابية تتزاحم وتتلاهف لحجز قطعة حكومية في جبنة نواف سلام. وهذا هو الفرق بين سلطةٍ تتسلَّط على الدولة وتفسدها بزمرة سياسيين ذوي مقاييس انتخابية ومعايير شخصانية، ووطنٍ حضاريٍّ ضالعٍ في الزمان أَعلى وأَرقى وأَبقى وأَنقى من جميع الصغائر لدى عشائر أَهل السياسة فيه.
نشر المقال في “النهار” أولاً.