ازمة لبنانالاحدث

معارك الهرمل تطرح قضية الترسيم الحدودي مع سوريا | بقلم نبيل الحلبي

بعد الحرب العالمية الأولى، وتفكك الجيش العثماني في المشرق العربي عام 1918، بقيت بلاد الشام موحدة إدارياً وسياسياً تحت حكم “المملكة العربية السورية الهاشمية” حتى صيف 1920، حين اجتاحت القوات الفرنسية البلاد بقيادة الجنرال هنري غورو، وقبل اقرار “عصبة الأمم” لصك الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان بعامين.

رغم سيطرتها الكاملة على سوريا، وبعد إعلانها تأسيس “دولة لبنان الكبير” في 1 أيلول 1920، وسيطرتها عليه، لم تقم فرنسا بترسيم الحدود بين لبنان وسوريا بشكلٍ مناسب ودقيق، بل رسمت الحدود عشوائياً مستندةً إلى الحاجز الطبيعي لسلسلة جبال لبنان الشرقية، من دون التطرق إلى الوضع الديمغرافي القائم للسكان المحليين في تلك القرى المتداخلة، نظراً الى الخصوصيات العشائرية والعائلية، والمصالح الاقتصادية والملكيات الزراعية المتداخلة والشديدة التعقيد التي تحكم معظم المناطق الحدودية بين لبنان وسوريا.

ظلت هذه التعقيدات بعد الاستقلال، حيث اكتفت حكومة البلدين بتدشين المعابر الحدودية البرية النظامية، من دون الاقتراب من المسائل الشائكة التي من شأنها خلق توترات سياسية واجتماعية واقتصادية في الداخل اللبناني الهش، مثل اقامة علاقات ديبلوماسية بين البلدين، وترسيم الحدود البرية والبحرية بينهما، الأمر الذي كانت تتحفّظ عليه القيادات الإسلامية اللبنانية، ولا يحظى بحماسٍ من الجانب السوري ايضاً.

كذلك يجب ألا يغيب عن بالنا أن موضوع ترسيم الحدود لم تكن تعوقه اعتبارات سياسية وتاريخية فحسب، بل كانت لدى بعض الأعيان والنافذين في البلدات الحدودية منافع اقتصادية كبيرة، من خلال رعايتهم لشبكات التهريب والتي يستمدون منها نفوذاً سياسياً واجتماعياً كبيراً، ومنافع مادية هائلة شكّلت مورداً حيوياً للعديد من رجالات السلطة في البلدين.

خلال أحداث 1958، وهي أول حرب أهلية لبنانية بعد الاستقلال، لم تكتفِ الغالبية المسلمة في لبنان بمطالبة الرئيس كميل شمعون بالاستقالة، بل ذهب بعضهم إلى المطالبة بالوحدة مع سوريا، إسوةً بالوحدة القائمة آنذاك بين مصر وسوريا تحت مسمى “الجمهورية العربية المتحدة”. اتهمت السلطات اللبنانية حينها جهاز الاستخبارات العسكرية في سوريا المعروف بإسم “الشعبة الثانية” باستخدام المعابر الحدودية غير الشرعية بين البلدين لتمرير السلاح والذخائر الى المتمردين على حد وصفها.

في عهد الرئيس فؤاد شهاب استخدمت الاستخبارات العسكرية اللبنانية (المكتب الثاني) المعابر الحدودية غير النظامية مع سوريا من أجل تنفيذ عملية أمنية سرية وخاصة، قضت بتحرير وزير الداخلية السوري الأسبق عبد الحميد السرّاج، من سجن المزّة العسكري، وتهريبه عبر بلدة دير العشائر إلى لبنان، قبل تأمين سفره إلى مصر تنفيذاً لرغبة الرئيس جمال عبد الناصر. جاء ذلك بعد نجاح الانقلاب على الوحدة في سوريا بقيادة العقيد عبد الكريم النحلاوي.

بعد سنوات حاول جهاز الاستخبارات العسكرية اللبناني “المكتب الثاني” ضبط المعابر الحدودية غير النظامية مع سوريا ومراقبتها، لكنه لم يوفّق بشكل كامل، بعد أن سهّل نظام صلاح جديد تدفق كوادر الفدائيين الفلسطينيين وعناصرهم من سوريا إلى لبنان بعد الصدامات الدامية التي وقعت بين الفصائل الفلسطينية والسلطات الأردنية في أيلول 1970.

بسبب الانقسام السياسي اللبناني حول الهوية العربية للبنان التي حسمها “اتفاق الطائف” عقب انتهاء الحرب الأهلية، بقي موضوع طرح ترسيم الحدود بين البلدين من المحرّمات السياسية في لبنان، وهي تلتقي مع رغبة حكّام سوريا المتعاقبين، سواء أكانوا من رجالات الدولة في فترة الحكم الوطني، أو كانوا ناصريين، أو بعثيين، فجميعهم يشترك بالنظرة الواحدة إلى “دولة لبنان الكبير” على أنه كيان من صنيعة الاستعمار تمّ سلخه من الجسد الشامي الأكبر.

عقب انسحاب الجيش الاسرائيلي من جنوب لبنان في 25 أيار 2000، عاد الحديث مجدداً حول مسألة ترسيم الحدود البرية مع سوريا، بعد تذرع “حزب الله” باحتلال الجيش الاسرائيلي لمزارع شبعا وقرية الغجر لبقاء سلاحه كـ”مقاومة” مشروعة ضد الاحتلال، في الوقت نفسه رأى معارضوه أن مزارع شبعا وقرية الغجر هي ارض سورية، مطالبين بضرورة ترسيم الحدود الشرقية لسد ذريعة “حزب الله” في إبقاء سلاحه.

عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وتحت ضغط شعبي لبناني ودولي انسحبت القوات السورية من كامل الأراضي اللبنانية في نيسان من العام 2005، بعد ذلك بثلاث سنوات، وتحديداً في 15 تشرين الأول 2008، قام رئيس الحكومة سعد الحريري بالإعلان لأول مرة (كزعيم سني) عن نهائية الكيان اللبناني، طارحاً شعار “لبنان أولاً”، وهذا ما لم يقدم عليه أي زعيم سني لبناني في السابق. بل ذهب الحريري إلى أبعد من ذلك حين طالب بعلاقات ديبلوماسية بين البلدين، وقام بتدشين أول سفارة لبنانية في سوريا عام 2009، تكريساً لنهائية الدولة اللبنانية وفصلها التام عن سوريا، كما طالب بترسيم الحدود بين البلدين.

اضطر نظام بشار الاسد إلى اقامة علاقات ديبلوماسية مع لبنان، وعيّن سفيراً من طائفته، مع طاقم أمني قوامه 15 كادراً من المخابرات أعطاهم صفة ديبلوماسية. ثم ما لبث أن قطع الحدود البرية غير النظامية بين تل كلخ السورية ومنطقة وادي خالد شمال لبنان، حيث تم اعتقال عشرات الاشخاص بتهمة ارتكاب جرائم تمس بالاقتصاد السوري، غالبية هؤلاء المعتقلين باتت ضحايا جريمة الاختفاء القسري.

كانت خطوة نظام بشار الأسد انتقامية وانتقائية، إذ استهدفت المصالح التجارية لأبناء عكار، المعروفة بالخزّان السنّي اللبناني إضافةً إلى شركائهم السنّة في تل كلخ السورية، فيما عزز نظامه معابر التهريب من جهة محافظة الهرمل، حيث أنشأ المهربون الموالون لنظام الأسد و”حزب الله” ميناءً تجارياً غير شرعي في بلدة القصر اللبنانية المتاخمة للحدود السورية.

بعد اندلاع الحرب في سوريا، عقب “ثورة الحرية والكرامة”، استغل “حزب الله” وحلفاؤه المعابر الحدودية غير النظامية بين لبنان وسوريا، وجعلوها قواعد انطلاق لحملاتهم العسكرية واللوجيستية، كما استخدمها “الحزب” في نشاطه التجاري الأسود الموازي والعابر للحدود، والذي أكسبه مناصرين محليين من العاملين في مجال التهريب والزراعات الممنوعة، والمطلوبين للقضاء اللبناني.

بعد تحرير سوريا وإسقاط حكم آل الأسد بالضربة العسكرية، بدأ جهاز الأمن العام السوري بملاحقة عصابات التهريب والمخدرات والكشف عن معامل الكبتاغون، وإتلاف المواد المخدرة في عدد من المناطق السورية.

يوم 6 شباط الجاري، أثناء عملية أمنية في عدد من بلدات ريف حمص الغربي، وقعت اشتباكات بين عناصر من جهاز الأمن العام السوري مع مجموعات مسلحة من عصابات التهريب التي كانت تحظى بدعم من “حزب الله” وحمايته، وينتمي أفرادها إلى عشائر شيعية لبنانية من محافظة الهرمل، ويسكن عدد منهم قرى سورية ضمن محافظة حمص منذ عقود رغم أنهم لبنانيون. قسمٌ كبير منهم قام نظام الأسد بمنحه الجنسية السورية ضمن سياسة الهندسة الديمغرافية التي انتهجها في سوريا مع حليفه الإيراني. كان “حزب الله” قد استغل هذا الواقع الديمغرافي، فقام بتجنيد سكان هذه القرى في حربه ضد غالبية الشعب السوري على مدار 14 عاماً، وأنشأ قواعد عسكرية ثابتة له، بقيت في تلك القرى الحدودية بعد سقوط نظام الأسد بشهرين!

أشعلت هذه المواجهات ملف ترسيم الحدود السورية اللبنانية مجدداً، وبرزت مسألة القرى السورية التي يسكنها لبنانيون، أو تلك التي تملك عوائل لبنانية فيها أراضٍ ومزارع، وهذا الأمر لا يقتصر على ريف حمص الغربي، حيث تدور المواجهات اليوم. بل هي واقع تاريخي ممتد من شمال لبنان إلى منحدرات جبل الشيخ جنوباً.

بعض هذه القرى هي:

المشيرفة، في ريف حمص حيث يملك لبنانيون من وادي خالد العكارية أراضٍ شاسعة فيها منذ زمن طويل.

في ريف حمص الغربي المحيطة بمدينة القصيّر تتوزع 17 قرية يسكنها عدد من اللبنانيين ويملكون أراضٍ فيها، وهي:
حاويك، مطربة، زيتا، السماقيات، الديابية، بلوزة، النزارية، اكوم، حوش السيد علي، الحمام، الجنطلية، المصرية، ربلة، البويضة، الزراعة والعقربية.

تملك العديد من عائلات وعشائر محافظة الهرمل أراضٍ وبساتين في تلك القرى، وبعض هؤلاء اللبنانيين فضل البقاء في تلك البلدات السورية لزوم معيشته وقربه من أراضيه الزراعية.

يملك العديد من أبناء عرسال عقارات في عدد من قرى القلمون الغربي من منازل وبساتين، لا سيما في بلدات جراجير، قارة، راس المعرة وفليطة.

بالنزول قليلاً جنوباً، نرى العجب العجاب في حالة بلدة الطفيل اللبنانية، التي تحيطها من كل جانب الأراضي السورية، وبعض سكانها مواطنون سوريون.

رغم كون الطفيل بلدة لبنانية تابعة لقضاء بعلبك، إلّا أنّ طريق الوصول إليها يكون عبر الأراضي السورية!

ينسحب الأمر كذلك على املاك بلدية مجدل عنجر التي تمتد إلى خارج نقطة المصنع الحدودية وصولاً إلى جديدة يابوس.

كما لا يخفى على معظم اللبنانيين إسم مزارع شبعا عند سفح جبل الشيخ ومزرعة بيت جن والتمازج العائلي بين سكانها وسكان قريتي شبعا وكفرشوبا التابعتين لقضاء حاصبيا في لبنان.

جغرافيا منسية دفع سكانها ضريبة تقسيم جائر منذ 100 عام، ثم دفعوا ضريبة إهمال الحكومات الوطنية بعد الاستقلال، ووقعوا فريسة الاستغلال الاقتصادي والأمني كلّفت مئات الشباب منهم أثماناً غالية من حياتهم إلى حريتهم وصولاً إلى لقمة عيشهم.

نبيل الحلبي، محامي وباحث لبناني متخصص في القانون الدولي لحقوق الانسان والقانون الجنائي الدولي

‎⁨نبيل الحلبي محامي وباحث لبناني متخصص في القانون الدولي لحقوق الانسان والقانون الجنائي الدولي. الرئيس التنفيذي للمؤسسة اللبنانية للديمقراطية وحقوق الإنسان (لايف). مبعوث سابق في التفاوض وحل النزاعات، وخبير دولي في ادارة الصراع. منسّق سابق لبرامج وزارة الخارجية البريطانية ودول الكومنولث تشمل التحقيقات الخاصة بشأن الانتهاكات الجسيمة، وإدارة الصراع في سوريا. قام بالمراجعة والإعداد القانوني والانساني لبرنامج الشرطة المجتمعية المقدم من حكومة الولايات المتحدة لقوى الامن الداخلي اللبنانية. حائز على درجة دبلوم في العلوم الاستخباراتية من جامعة صباح الدين زعيم في اسطنبول ومن الاكاديمية الدولية للعلوم الامنية في لندن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى