لبنانُ الوطنُ ليس قرارًا في الأُمم المتحدة | بقلم هنري زغيب

يومَ كتَبَ عُمَر فاخوري عن “رسالة لبنان في هذه المنطقة من العالَم”: “لبنان حيثُ هو، من الطبيعة ومن التاريخ، سيظلُّ همزةَ وصْلٍ بين الشرق والغرب اللذَين يلتقيان فيه… فثقافتُه ثقافةُ تَمازُج ورسالتُه رسالةُ تَواصُل” (“الحقيقة اللبنانية”-1944)،
وذاتَ كتَبَ جبران: “لبنانُكُم ينفصل آنًا عن سوريا ويتَّصل بها آونةً، ثم يحتال على طَرَفَيْه ليكونَ بين معقودٍ ومحلول. أَمَّا لبناني فلا يتَّصل ولا ينفصِل ولا يتفَوَّق ولا يتَصاغر” (“البدائع والطرائف”-1923)،
وحين أَعلن سعيد عقل: “ومن الموطِن الصغير نَرُود الأَرضَ نذْري في كل شَطٍّ قُرانا” (“قدموس”-1944)،
وإِذ صدَحَ الأَخَوان رحباني: “يا زْغَيَّر ووسْع الدني يا وطني”…
… وسواهم وأَمثالُهم، لم يكونوا يقصِدون لبنان الدولة الذي تعترف بكيانه منظَّمةُ الأُمم المتحدة، ولا التي أَعلَنَتْها فرنسا “دولة لبنان الكبير”، ولا الذي تَحميه (أَو تحاول) قراراتُ مجلس الأَمن وآخرُها الــ1701 (حديث الساعة في أَوساط السياسيين)، بل كان أُولئك الكبار يقصِدون لبنانَ الوطن اللامحدود، بكلِّ ما يعنيه هذا اللُبنان من حضارة أَكيدة، وتواريخ عديدة، وآثار مجيدة، وطبيعة فريدة، وسياحة رغيدة، وأَعلامٍ ومعالمَ وعلاماتٍ تجعلُه فعلًا “الوطن الرسالة” و”الوطن المتفرِّد بتراثه المادي وغير المادي” حتى ليَهنأ إِليه عارفون وقادرون، ويعتز بإِرثه أَهلُه وسكانُه المقيمون.
استشهدتُ أَعلاه بأَقوالٍ من بَنيه المبدعين، لا لقُصور في الإِقناع ولا اتكاءً تقليديًّا على السوى. إِنها لأَقول إِنَّ وعيَ لبنان الحقيقيّ هو وعيُ الوطنِ الخالد، الثابتِ الدائم، السائرِ في الزمان، غيرِ المتوقِّفِ عند حدَث أَو حادثة أَو حُكْم أَو حكومات أَو تشكيلات سياسية أَو نيابية أَو حزبية، بل هو لبنان الأَنقى والأَبقى والأَرقى من الآنيَّات العوابر.
مَن يهاجرون من لبنان، أَو يهجُرونه – كُفْرًا به ورفْضًا أَوضاعَه الراهنةَ المتناسلةَ منذ عقود – يهُجُّون من أَفعال سلطةٍ فيه تعاقبَت على دولته فشوَّهتْها وجْهًا وسمعةً وقدرات. وحين يبتعدون في مهاجرهم يحنُّون للعودة لا إِلى لبنان الدولة وسُلْطتها بل إِلى لبنان الوطن أَهلًا وأَرضًا وأَماكنَ وثرواتٍ وطبيعةً وحضارة. وهذه جميعُها لا فضْل فيها للدولة السياسية والإِدارية ولا للسلطات المتعاقبة عليها، بل هي نتاجُ مبدعين في كلِّ حقلٍ معرفيٍّ، زرعوا قمح مواهبهم فنبتَت لنا سنابلَ، علينا أَلَّا نُفَرِّطَ بها بل أَن نَفْرُطَ قمْحها لأَبنائنا كي يبذُروه في وجدان أَولادهم كي يحصدوه سنابل، ويتوَاصل الزرع والحصاد في تربة لبنان جيلًا بعد جيل.
المشكِّكون فلْيحترقوا بشُكوكهم. السلبيُّون فلْيستنقعوا في تشاؤُمهم. الأَوطان لا تعيش إِلَّا بإِيمان أَبنائها الإِيجابيين المتفائلين الوطيدي الثقة بالإِرث الذي بَلَغَهُم فَتَبَلَّغوه كي يُورِثُوه.
هذا هو اللبنان الذي نتمسَّك به شعبَ إِرثٍ خالدٍ وأَرضَ رسالةٍ حضارية. به نَحيا ونُحيي. ولأَجْله نَصبر ولا نَكفر.
يستحقُّ منا الإِيمان بدَوره الفذّ وحضوره المغاير، وبقيمة حضارية تعلو على يومياته العابرة الزائلة وسياسييه العابرين الزائلين.
هذا هو اللبنان الذي علينا نقْلُه إِلى أَجيالنا الجديدة. عندها تُشيح عمَّا ترى وتسمع وتعرف راهنًا. وعندها تعي أَنَّ جوهرَ لبنان الحقيقيّ يستحقُّ الإِيمانَ به فلا تتخلَّى عنه، بل تُدرك أَنَّ خلاصها مُكرَّسٌ وحدَه بجوهر بهذا الإِيمان.