الانتخابات البلدية: نفتقد نهاد نوفل | بقلم هنري زغيب

صباحَ اليوم، بدأت المرحلة الأُولى من رُباعيَّة الانتخابات البلدية. لن أَتوقَّفَ عندَ مرحلة اليوم بالذات، ولا عندَ أَيٍّ من الثلاثِ المقبلة. فليس هدفي أَشخاصَها ولا مرشَّحيها ولا حملاتِهِم الانتخابية. ما يَهُمُّني هنا هو ملاحظتي نشوبَ “بيت بو سياسة” بين المرشَّح البلدي وقاعدتِه، كأَنَّ هذا المرشَّح لا قيمةَ ذاتيةً له إِلَّا بالسياسيِّ الذي يدعمُه.
تابعتُ كيف أَكثرُ مَن أَطلقوا لوائحهم، أَعلنُوها إِمَّا في بيت نائب من المنطقة، أَو بحضور نائب أَو أَكثر من نواب منطقتهم، أَو من مقر الحزب أَو التيار أَو الجهة السياسية التي تدعمهم.
ومع أَنّ كثيرين من شبابنا، المتقدِّمين إِلى الترشُّح في كلِّ لبنان، جديرون في شخصهم، أَكفياءُ في ذاتهم دون السوى الداعم، أَرى كأَنَّ “بيت بو سياسة” جعلوا من شبابنا المرشَّحين دُمًى بين أَيديهم، أَو حجارةَ داما في تصرفهم، أَو حبوبَ مسبحةٍ بين أَصابعهم، أَو بشكل أَوقح: قضبانَ حطبٍ في مواقدهم. فإِذا فاز شبابُنا ذهبَ الرصيدُ إِلى السياسي، وإِذا لم يفوزوا انكفأُوا إِلى خيباتهم من الاصطفاف في معسكر سياسي، قد لا يكونُ قبلًا من صالحهم، ولا طوعًا من قناعاتهم.
حيال هذا الواقع، أَتذكَّر نهاد نوفل، رئيس بلدية زوق مكايل 53 سنة متتالية بشعار واحد: “لا للسياسة، نعم للإِنماء”. وأَدار البلديةَ والبلدةَ بهذا الشعار، حتى غدَت زوق مكايل البلدةُ وردةَ بلدات لبنان، وزوق مكايل البلديةُ نموذجًا بلديًّا في كل لبنان.
“لا للسياسة”، قالها نهاد نوفل. ولم يسمحْ لسياسيٍّ واحدٍ أَن يتدخَّل في النهضة البلدية التي كان فيها رائدًا وسبَّاقًا وطليعيًّا. ومن معرفتي الطويلة به، أَجزُم أَن عُرضَت عليه مرتَين حقيبةٌ وزارية، رفضها في المرتين وجوابه واحد: العمل البلدي أَهَمُّ من الوزارة.
“نعم للإِنماء”… قالها نهاد نوفل، وأَخذ يرعى نموَّ زوق مكايل، وأَسَّس بعدها اتحاد بلديات كسرون الفتوح، وكانت له بصمات واضحة في قانون البلديات بتكليفِ أَكثرَ من وزيرِ داخلية.
هكذا إِذًا: العملُ البلدي أَهمُّ من الوزارة… صحيح. شرط أَلَّا يكون رئيسُ البلدية خاتمًا في إِصبع سياسي، ولا واقفًا عند بابه. فحين يتحوَّل الوزيرُ مُشَغِّل بلديات كي يزيد من رصيده السياسي، وحين يتحوَّل النائب مُعَقِّب معاملاتٍ بواسطة رئيس البلدية، لا يعودُ العمل النيابي تشريعًا، ولا يعود العمل البلدي خدمةً الرعية. عندئذٍ يمسي المسؤول البلديّ خادمًا عند السياسي الذي أَتى به إِلى البلدية، ليجعل منه بعد أَشهُر مفتاحًا انتخابيًا حين يترشَّح هذا السياسي قريبًا إِلى المقعد النيابي.
رئيسُ البلدية رئيسُ جمهورية بلدته. سيِّدٌ مطلَق الرأْي والقرار، بمجلس بلدي يبني مع أَعضائه نهضة البَلدة. لكنَّ هذا الرئيس يبطُل دورُه حين يصبح بوقًا للسياسيين ومنفِّذ رغباتهم وأَوامرهم وبوانتاجتهم الانتخابية.
السلطة المحلية أَقوى من السلطة المركزية. فهي تنفِّذ ما لا تُنفِّذه في البلدة السلطةُ المركزية. ولكنْ، إِذا كانت السلطةُ المحلية، أَي البلدية، خادمةً منصاعةً تطيع أَوامرَ “بيت بو سياسة”، فلا أَملَ من سُلطةٍ تابعةٍ سُلطةً متبوعة. عندئذٍ، تبقى البلاد قبائليةَ الهيكلية، زبائنيةَ الأَركان، عشائرية الأَعراف. وليس هذا لبنان الذي نطمح إِليه، ولا هي هذه الدولة التي ننتظر أَن تنهض بالبلاد عبْر سلطاتها المحلية التي تبدأُ اليومَ عمليةُ اختيار ممثِّليها.
وحدَه الناخب هو السيِّد. فَلْيُزاوِلْ سيادتَه، ولو مرَّةً، كي يخرُج، ولو مرةً، من انصياعية القطيع.