ازمة لبنانالاحدث

اللبنانيون مُطالبون بدفن أحقادهم والانصراف لبناء دولتهم | بقلم العميد المتقاعد د. عادل مشموشي

لبنان منذ عقود يَتخبَّط بأزماتٍ حادَّةٍ إلى حد يُمكننا القول أنه أمسى على حافَّة الهاويَة، نتيجة تعدُّدِ الأزمات السياسيَّة والاقتصاديَّة والماليَّة والاجتِماعيَّة والتَّربويَّة، وأخطرُها تلك الأزمةُ المُتأتيةُ عن الاستِقطاب السياسي طائفيًّا ومَذهبيًّا والتي تُشكِّلُ العائق الأكبر أمام النُّهوض بلبنان من كبوته. أمَّا السُّؤال الذي يطرحُ نفسه فيتمثَّل في ما إذا كان بمقدور اللبنانيين تجاوز خلافاتِهم رأفة بوطنهم وأنفُسِهم قبل فوات الأوان؟

لقد مرَّ لبنان واللبنانيون بتجاربٍ مريرةٍ وقاسيَةٍ سواء كان ذلك نتيجة الحرب الأهليَّة التي عَصَفت به ما بين عامي 1975 و1990، أو بدخوله في متاهات الصِّراعات الإقليميَّة، وما تخلَّلهما من أعمال إرهابيَّة واغتيالات سياسيَّةٍ وتعطيلٍ للمؤسَّسات الدستوريَّة، ويُضافُ إلى ذلك الانقسام السياسي الحاد في المجتمع اللبناني نتيجة الإصطفافات الفئويَّة الغرائزيَّة، والتي انعكست سلباً على الاستقرار السياسي والأمني. وأدّى التَّعنصر الفئوي إلى استئثار شخص أو شخصين بمصير طائفة أو مذهب. وعمدَ المتنفذون إلى نهب ثروات الدَّولةِ الطبيعيَّةِ وتبديد قُدراتها الماليَّة. كما أخلوا البنك المركزي من العُملات الصَّعبة، وأفرغوا المصارف من ودائعها، ودَفعوا بالكثير من المُتمولين للعُزوف عن الإستثمار في لبنان نتيجةَ خلافاتهم ومُناكفاتهم السِّياسِيَّة الرخيصة، وفوَّتوا بفسادِهم المُستشري الكثير من الفُرَصِ الاقتصاديَّة والتَّنمويَّة والإصلاحيَّة.

وتُعزى أسبابُ فشلِ المُصالحاتِ السياسيَّةِ بين مُختلِفِ المُكونات اللبنانيَّة إلى أمورٍ عدَّة أهمُّها تجذُّرِ النَّعرات الفئويَّة الغرائزية من جهة، ومن جهةٍ أخرى ضعف الشُّعور بالانتماء الوطني، ولكون المُعالجات التي اعتمدت جاءت مرتجلة وغلب عليها الطابع الشَّكلي وتهميش الجوانب الموضوعيَّة، فجاءت الحلول مصطنعة وسطحيَّة بالإضافة إلى اهمالها لجانب المُساءلةِ والمُحاسبَة.

لم تنحصر الجوانب السلبيَّة برجال السياسة، بل لعب بعضُ الإعلام غير المسؤول دوراَ سلبيًّا في توتير العَلاقات الاجتماعية بإثارة النعرات العنصريَّة وشحن النفوس بالكراهيَة جراء تبنّي خطابات طائفيَّة ومذهبيَّةٍ مقيتة، وتأزيم الأوضاعِ السياسيَّةِ وتعقيدِ الأزمات الحالَّة القائمة… الخ، أدّى كل ذلك مُجتمعاً إلى تأجيجِ الأزماتِ والانقِسامات العاموديَّةِ بين أفرادِ الشَّعب الواحد بدلاً من تعزيز مشاعرِ الانتماء الوطني ومفهوم المُواطنة الصالحة. ولم تقتصر مُعاناة اللبنانيين على التَّبايُنِ في التَّوجُّهاتِ السِّياسِيَّةِ إنما حَصَلت أمورٌ لم تكن متوقَّعةً تسبَّبت في تفاقُم الأزمات وتداخلها وزادت من قدر المُعانات، كانفجار مرفأ بيروت وأزمة كورونا وطوفان الأقصى وما استجرَّه من حروب.

من المألوف أن تمُرَّ الدُّولُ وتواجِه شُّعوبها من وقت لآخر أزمات تختلفُ من حيث طبيعتِها ودرجَةِ حِدَّتها، إنما من غير المألوف ألَّا يكون لدى سُلطاتِ الدولةِ رؤيةً وطنيَّةٌ موحَّدةٌ لبلورَةِ حُلولٍ عمليَّةٍ إنقاذيَّة، إلَّا أن ما هو أخطرُ من ذلك، يتمثَّل في نظرةِ كل طرفٍ أو مُكوِّنٍ إلى باقي الشُّركاءِ في الوطن على أنهم أعداء لا خُصوم سياسيين ينبغي التَّعامُلُ معهُم كشُركاءَ حَقيقيين.

كلُّ تلك الاعتبارات تَدعونا للتَّساؤل عما إذا كان سياسيونا مُدركون لحَجمِ وطبيعةِ المَخاطر المُحدقَةِ بلُبنان؟ وعما إذا كان لم يحن الأوان بعد لدفنِ أحقادهم والتلاقي كشركاء حول المصالح الوطنية العليا، والسعى جاهدين للنهوض بالدولة؟. إن السَّعي الجاد لإعادة بناءِ الدَّولة والنُّهوضَ باقتصادها، ووضعها على سكة النهوضِ والإزدِهار يقتضي منَّا العملَ ضمن أُطُرٍ مُتكامِلةٍ مُتناسقة.

كل ما أوردناه يملي علينا كلبنانيين العملَ على إحياء روح المواطنة الصَّادقة، وتنشئة الأجيال القادمة على هذا الأساس بإعادةِ النَّظرِ في المناهجِ التربويَّة، وتبنّي مفاهيم تاريخيَّةٍ مُتوازنةٍ وغير طائفيَّة، كذلك يملي علينا العمل على إطلاق مُبادرات حواريَّةٍ وطنية يشاركُ فيها ممثلون عن مختلف المكونات السياسيَّة، وتنظيمِ ورش عمل وحلقات نقاش ثقافيَّة يُشاركُ فيها مُختلفُ الفئات العُمريَّة. أما على المُستوى السِّياسي فينبغي إعادة النَّظر في قوانين الانتخاباتِ البرلمانيَّة والبلديَّة على نحو يحقق أفضل تمثيل لمُختلف المُكونات اللبنانيَّة، ومن جهة أخرى لا بدَّ من تشكيل هيئة مُصالَحَةٍ وطنيَّة، تؤلف من شخصيَّاتٍ وطنيَّةٍ مُستقلَّة وازنة. وأخيراً لا بدَّ من حث الإعلام على تبنّي ما يلزم من ضوابط والامتناع عن تغطيةِ الخِطابات التَّحريضيَّةِ ودعم البرامج الإعلاميَّة التوعويَّة التي تُعزِّزُ القِيمَ الوَطنيَّةِ المُشتركَة.

أن مُقتضيات النُّهوض تستوجب من مختلف المعنيين بذل تضحياتٍ تطال مَصالِحهم الفئويَّةِ والشَّخصِيَّةِ لصالِحِ المَصلحَةِ العامَّة، وفي هذا الإطار نؤكِّد على أهميَّة سعي مختلف المكونات إلى التخلي عن الامتيازات الطائفيَّةِ والتَّعالي عن لغةِ المُحاصصات التَّوظيفيَّة، والإقرار بضرورة مُحاسبة الضَّالعين في قضايا الفساد بغض النَّظر عن انتماءاتهم الفئويَّة، وعدم تمكينهم من التَّلطي خلف اعتبارات طائفيَّة أو مذهبية أو حزبيَّة؛ وبموازاة ذلك، لا بدَّ من تسليط الضَّوء على نماذج من المسؤولين والموظَّفين من الذين قدَّموا التَّضحيات من أجل الوطن، كما من ذوي المِهن الحرَّة كالأطباء والمهندسين والنُّشطاء الذين حقَّقوا إنجازات باهرة في مجالات اختصاصهم، هذا بالإضافة إلى تشجيع المواطنين على المُساهمةِ في دعم مسيرة النهوض الوطني والسير قدماً في عمليَّة التَّغيير والتَّطوير.

إن الوطن يستحق منا كلبنانيين التَّضحية من أجله كما من أجل الأجيال القادمة؛ وفي هذا الإطار لا بدَّ من الاقتداء ببعض الدول التي نجحت في الخروج من حروبها الأهليَّة وتخطّت الأزمات الحادَّة التي عصفت بها، وحققت نتائجَ ملموسة في النُّهوض بأوطانها؛ ومنها دول جنوب أفريقيا وروندا وكرواتيا وجميعها مرَّت بظروف أقسى مما شهده لبنان، ولكنها نجحت في التَّخلي عمَّا كان يعتريها من عُنصُريَّة بالتغاضي عن فوارقها العِرقيَّة، وأخمدت نيران حُروبها الأهليَّة بتبنّيها مُصالحاتٍ وطنيَّة حقيقيَّة، باعتمادِها مُحاكماتٍ انتقاليَّة شفافةٍ تلاها مُسامحاتِ صادقة.

لقد آن الأوان للإجابة على أسئلةٍ مصيريَّة، فإلى متى سيبقى لبنان أسير أدبياتٍ وميليشياوية؟ وإلى متى سنبقى حريصين على نظام يكرّس التَّوارث السياسي والتحاصص الطائفي للمراكز الوظيفيَّة في الدَّولة؟ وإلى متى سنبقى متشبّثين بقانون جمعياتٍ عثماني عفى عليه الزمن، ويعزز الإصطفافاتِ الطائفيَّة والمذهبيَّة؟ أليس لبنان وطن لكل اللبنانيين وعلى قدر المُساواة؟ ألم يحن الأوان لكي نضع الغرائز الفئوية جانباً ونحتكم إلى لغة العقل حيث المعايير الإنسانيَّة خِدمةً للأجيال القادمة؟

إن أردنا كلبنانيين بناء دولة عَصريَّة قابلة للحياة، فلا بدَّ لنا من أن نعي أن النهوض بالدولة ممكن، وأن الخروج من أزماتنا ليس بمستحيل، وأن كل ما علينا هو الاقتِناعُ بأهميَّةِ التَّغيير، والتَّغيير الحَقيقي يبدأ بالانتفاض على الذات، ومن ثمَّ بمساعدة الآخرين على تغيير منهجية تفكيرهم وتطوير قناعاتهم، وليكن السلاح الإرادَةِ الصَّلبَة وحُسن النَّوايا. وعلينا أن نعي أن فُرَصَ النُّهوضِ ليست بمُتاحَةٍ دائمًا، وأن التَّصدي للأزمات الكبرى يتطلبُ جُرأة وروح المُبادرة بدلًا من تقاذف الاتهامات والتهرب من المسؤوليات جراء تبنّي خيارات خاطئة، ولا يكون بالتَّأكيد بالإحجام عن اتخاذ قراراتٍ صعبة خوفاً من الوقوع في أخطاء. إن المسؤوليَّةَ إبان الأزمات والظروف العصيبة تتطلب قادة بل قيادات رشيدة، لا تخجل بالتَّعلُّمَ من تجاربَ الآخرين لتلافي أخطائهم والإقتداء بنجاحاتِهم.

عاملُ الوقت ليس لصالِحنا، والتَّحوّلاتُ المُتسارعةُ التي تحصلُ من حَولنا لا تبشِّرُ بالخير، وأخطرُ ما في الأمر يتمثَّلُ في سقوطِ لبنان من الدَّاخل، كنتيجة حتميَّةٍ لإصرارنا على البقاء على ما نحن عليه من تموضعات، متلهين بخلافاتنا ومتغافلين عما يحيطُ بنا من تهديدات ومخاطِر.

نحن كلبنانيين مدعوون للتفكير مليًّا بمستقبل الوطن الذي نرغب في توريثه لأولادنا وأحفادنا. وبما سنتركه من قيم وطنيَّة وإنسانيَّة، وعلينا أن نعي أنه في حال سقطَ لبنان لا سمح الله كوطن، سنسقط جميعاً في متاهاتِ الحروب الأهلية تارةً والإقليميَّة طورًا آخر. وفي المقابل علينا أن نؤمن بأنه بقدر ما واقعنا أليم ثمَّة بصيص أمل بمُستقبلٍ زاهرٍ إن أجدنا تبنّي الخياراتِ الصَّائبةِ وإن تكُن صَعبة.

وأخيراً لا بدَّة من الإشارةِ إلى أنه لمن المُعيب بحَقِّنا كلبنانيين أن يُستعاض عن الأموال المنهوبة بأموال المودعين، وأن يثرى السياسيون في ظل الأزمات، وأن يكتنزوا الأموال على حِسابِ خزينةِ الدَّولة، وأن يتغنّوا برفاهيتهم بالتزامن مع مُعاناة الفُقراء، وأن يُهرِّبوا أموالَهُم قُبيل الأزمات المصرفية والنَّقدية، وأن يتملصوا من تبعات فسادهم وارتكاباتهم الجرميَّة؛ وكم من المعيب أيضاً أن يُغلَّب معيار التَّبعيَّة السياسيَّة على معيار الكفاءة، ومعيار الإستزلام للزعيم على معيار الولاء للوطن، ومِعيار المَحاسبية على معيار الكفاءة، والمعايير الشَّخصيَّة على حِساب المَصالحِ الوطنيَّةِ العُليا، ويكفينا خزياً أننا أمسينا مَضرب مثل في الفَسادِ والإفساد. ولا يغسل هذا الخزي سوى التأكيد على ضرورةِ فتح الباب أمام عدالةِ انتقاليَة، تكون مدخلاً لدفن أحقادنا ومخرجاً للترفُّعِ عن الآلام والجراح ومآسي الحقبةِ الماضية والإنصراف إلى بناء دولة.

العميد الدكتور عادل مشموشي

عادل مشموشي عميد سابق في قوى الأمن الداخلي، حائز على دكتوراه في الحقوق، متخصص في القانون الجزائي لديه مؤلفات عدة: -ضمانات حقوق الخصوم ما قبل المحكمة -ضمانات حقوق الخصوم خلال المحاكمة الجزائية -الإرهاب (مفهومه أسباب ايديولوجياته أطر مكافحته) المخدرات (ماهيتها؟ أنواعها، إساءة التداول بها، أطر مكافحتها) - جرائم المعلوماتية - إدارة الأزمات والكوارث. لديه عدد من الأبحاث القانونية والأمنية منها: -تببيض الأموال - محاكمة الرؤساء والوزراء -التحقيق الاول - الدفاع المشروع -المسؤولية الجزائية للهيئات المعنوية - جرائم الشخص المعنوي -المحرض -عقوبة الإعدام شارك في العديد من الندوات والمؤتمرات الإقليمية والدولي ذات العلاقة في شؤون أمنية - قانونية. تولى رئاسة قطعات أمنية تعنى بمكافحة الجرائم المنظمة ومكافحة الفساد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى