
إن أخطر سقوط في الحياة العامة ليس هو السقوط في صناديق الاقتراع، ولا في المحاكم، بل هو السقوط في وجدان الناس. حين يلفظ الشعب زعيمه من ذاكرته، حين لا يعود يرى فيه صورة الأمل ولا رمز السيادة، فإننا نكون أمام ظاهرة لا تنفع معها نصوص القوانين ولا تُجدي محاولات التجميل السياسي.
السياسي المنبوذ هو ذاك الذي فَقَدَ شرعيته في القلوب، قبل أن يفقدها في المؤسسات.
إن مفهوم “النبذ الشعبي” ليس مُدرجًا في أي قانون وضعي، لكنه موجود بكل وضوح في ميزان الشرعية السياسية. فالسياسي الذي تنقطع بينه وبين الشعب علاقة الثقة، يفقد تلقائيًا القدرة على تمثيله، مهما احتفظ بمنصبه. القانون يمنحه الصلاحيات، لكن الإرادة الشعبية تسحب منه القيمة. وهذا ما لا يجب على أي فاعل سياسي أو قانوني أن يغفل عنه. فالشعب، وإن صمت، لا يعني ذلك أنه يرضى، وإن سكت، لا يعني ذلك أنه غُفر له الخذلان.
إن السياسي المنبوذ غالبًا ما يبدأ طريقه بكثير من الحماسة والوعود، لكنه ما إن يتذوق طعم السلطة حتى يتحول شيئًا فشيئًا من خادم للصالح العام إلى صاحب مصلحة خاصة. يبدأ بتبرير التناقض، ثم يتقن فن الإنكار، ثم يظن أن الكراسي تحميه من المحاسبة. وهنا تحديدًا تبدأ عملية “السقوط البطيء”: سقوط في المعنى، قبل أن يكون سقوطًا في الموقف. والمشكلة لا تكون فقط في أخطائه، بل في غيابه عن الوعي الجمعي، في كونه لم يعد جزءًا من وجدان الناس، بل جزءًا من إرهاقهم.
إننا لا نستطيع أن نحاكم السياسي على “الخيانة المعنوية” التي يشعر بها المواطن تجاهه، لكننا نستطيع أن نكشف كيف يؤثر ذلك على الشرعية الفعلية للحكم.
إن النبذ الشعبي يخلق فراغًا أخلاقيًا في أعلى هرم السلطة، ويدفع بالمواطن إلى العزوف، أو إلى الاحتجاج، أو إلى التمرد الصامت. وهذا يهدد استقرار المؤسسات أكثر مما تفعل أي معارضة خارجية.
فالشعب حين يسحب ثقته، فهو يسحب الروح من الجسد السياسي، ويحوّله إلى سلطة تسيّر الأمور دون أن تُقنع بها أحدًا.
إن الخطاب السياسي المنفصل عن الواقع، الذي يُعيد تكرار الشعارات في وقت تطالب فيه الشعوب بالحقيقة، هو خطاب منتهي الصلاحية. الزعيم المنبوذ يواصل الحديث، لكن صوته لا يُسمع. ينشر صوره، لكن الناس لا تلتفت. يزور الأماكن، لكن الوجوه تبقى جامدة. لماذا؟ لأن الزعامة لا تُفرض بالقوة، ولا تُحفظ بالمنصب، بل تُبنى كل يوم بالصدق، بالتواضع، وبالوفاء بالوعود.
إن دورنا في مهنة المحاماة ليس فقط الدفاع عن الأفراد، بل الدفاع عن القيم. وإن أخطر ما يمكن أن تتعرض له المجتمعات هو الاعتياد على القادة الذين لا يحترمهم الناس، والاكتفاء بحضورهم الشكلي في مؤسسات لم تعد تمثل سوى صورتهم الباهتة. فكلما سمحنا ببقاء السياسي المنبوذ في المشهد، كلما أضعفنا ثقة المواطن في السياسة نفسها، وأفسحنا المجال لفراغ قد تملؤه الفوضى أو الشعبوية أو الرفض التام للدولة.
إن المحاكم تصدر أحكامها باسم الشعب، لكن الشعب يُصدر حكمه من دون قاضٍ، ومن دون استئناف.
الزعامة الحقيقية لا تُقاس بطول البقاء في السلطة، بل بمدى البقاء في الذاكرة، وفي الضمير، وفي القلوب.
فلتكن السياسة التزامًا أخلاقيًا قبل أن تكون سلطة قانونية، ولنتذكر دائمًا أن أعظم حماية لأي زعيم هي حب الناس، لا سطوة الكرسي.
وأقول أخيرًا، إن السياسي لا يُعدّ منبوذًا لمجرد أن يُنتقد، أو أن يُعارَض، أو أن يُساء فهمه في مرحلة من المراحل. فالنبذ الشعبي ليس ناتجًا عن خلاف عابر في الرأي، بل هو نتيجة تراكم الخيبات وفقدان الثقة بشكل لا رجعة فيه. أما القائد الذي يبقى حاضرًا في وجدان شعبه رغم التحديات، فهو ذاك الذي يُحافظ على خط تواصل صادق مع الناس، يعترف بأخطائه، ويُعدل مساره، ولا يتعالى على النقد. الزعيم غير المنبوذ هو من يواجه لحظات الغضب الشعبي بتواضع، لا بغطرسة، ومن يستثمر الفشل كفرصة للتصحيح لا كتبرير للجمود. إن الاختلاف لا يُقصي القادة، لكن الإنكار والتعالي والقطيعة هي ما تفعل. ولهذا، فإن السياسي الذي يُبقي جسور الحوار موصولة مع مجتمعه، ويُقدّم مصلحة الشعب على مصلحته الشخصية، لا يمكن اعتباره منبوذًا، حتى وإن هاجمته بعض الأصوات.