مؤتمر ميونخ للأمن 2020 يطرح قضايا وتساؤلات عدة حول مستقبل النظام العالمي الجديد في ظل التراجع الواضح لدور الغرب وتغير موازين القوة بالعالم
لم تكن فعاليات النسخة السادسة والخمسين من مؤتمر ميونيخ للأمن والتي انطلقت في الرابع عشر من شهر فبراير الجاري كغيرها من منصات النقاش الدولية التي تتناول أبرز القضايا الشائكة والملحة، ورغم مشاركة أكثر من 500 من صانعي القرار الدوليين في أعمال المؤتمر ومناقشة أبرز القضايا والتحديات الدولية الراهنة، إلا أن الشعار الأساسي للدورة الأخيرة كان “عالم جديد بمنأي عن النفوذ الغربي” في إشارة واضحة إلى تغير موازين القوى الدولية والتراجع الواضح لدور الغرب، وقد اختتم المؤتمر أعماله مؤكدا على المفهوم أو الشعار الجديد.
لقد أصبحت الصين خلال الآونة الأخيرة محط أنظار العالم وبخاصة في ظل التنامي الواضح للدور الصيني على الساحة الدولية، مما يؤكد على تراجع سيادة الغرب. هذا فضلا عن التصريحات السلبية والمنتقدة دوما للصين والصادرة عن كل من وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو ووزير الدفاع مارك اسبر، الأمر الذي يحمل دلالة واضحة على القلق الأمريكي تجاه القوة الصينية الناشئة.
ومن ناحية أخرى، فإن الخلافات في المعسكر الغربي نفسه تتزايد وتتعمق وبخاصة مع تمسك الولايات المتحدة بشعار “أمريكا أولاً” ، مما جعل التحالف بين الولايات المتحدة وأوروبا يشهد مؤخرا تحديات غير مسبوقة. وفي الوقت نفسه ، فإن الفجوة بين بعض الأعضاء داخل الاتحاد الأوروبي تتزايد أيضًا نظرا لتأثير الشعبوية.
وفي عام 2019 تحديدا، شهد العالم الكثير من التحديات مثل الحروب التجارية التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية، والشلل التام الذي أصاب آليات تسوية المنازعات بمنظمة التجارة العالمية، والركود التام الذي سيطر على التعاون الدولي فيما يتعلق بقضية التغيرات المناخية. هذا فضلا عن انتشار الحركات المناهضة للعولمة والحمائية التجارية. لقد سادت حالة من الانقسام الواضح في جميع أنحاء العالم على كافة الأصعدة التجارية والسياسية والتكنولوجية والأيدولوجية والدينية، مما جعل التحديات العميقة التي تواجه جميع دول العالم خلال هذا القرن تزداد تدريجيا وبخاصة خلال السنوات القليلة الماضية.
في الواقع، لا يمكن تغيير مسار العولمة بأي شكل من الأشكال، فلقد عمدت التقنيات الحديثة إلى ربط العالم بأسره بحيث بات من الصعب أن تتولى دولة بمفردها مهمة التصدي للتحديات الراهنة ولعب دور المنقذ والمخلص لهذا العالم. وفي الوقت الذي يشهد فيه العالم تراجعا واضحا للنفوذ الغربي، بات لزاما على جميع دول العالم إيجاد مسار مشترك يمكن أن يتعايش فيه الشرق والغرب، حيث ينبغي على البشرية بأكملها التصدي للتحديات العالمية الخطيرة كـ التغيرات المناخية، والإرهاب الدولي، والانتشار النووي ، والحد من الفقر والأمراض الوبائية.
ولكي تتحقق تلك الأهداف ، أولاً وقبل كل شيء ، يتعين على الدول الغربية أن تتقبل بصدر رحب مبدأ النهوض السلمي للصين وأن تنظر إلى المسار التنموي الصيني باعتباره مساهمة ذات قيمة لصالح البشرية بأسرها، وأن تكون على قناعة تامة بالاتجاه الذي اختارته الصين بناءً على تجربتها الناجحة في العقود الأربعة الماضية. وفي الوقت نفسه، يتعين على الصين أن تكون أكثر انفتاحًا وأن تتوصل إلى طريقة مقنعة جديدة لتقديم نفسها ، وذلك لتبديد مخاوف الغرب من دورها المتعاظم عالميا.
لقد أصبحنا اليوم على بعد خطوات من عالم متعدد الأقطاب، لم تعد القوى الغربية التقليدية تتمتع بتفوق ساحق من حيث التأثير الاقتصادي والسياسي والتكنولوجي والعسكري على العالم.حيث ستمارس الدول الناشئة حديثًا مثل الصين وروسيا والهند والبرازيل ودول الآسيان أدوارًا أكثر فاعلية على الصعيد الدولي. وبالتالي فإن العديد من القضايا العالمية بات من الصعب إيجاد حلول لها إلا من خلال التعاون الدولي. كما يحتاج العالم بأسره إلى تبني أنظمة التكنولوجيا الحديثة والتماهي مع أفرزته من اختراعات حديثة مثل شبكات الجيل الخامس من الاتصالات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي والأتمتة و وتقنية البلوكتشين وإنترنت الأشياء وغيرها.
وحقيقة الأمر فإن الدول الغربية نفسها أصبحت تواجه اليوم تحديات جديدة ، والتي تتمثل في الأزمات المتعددة التي واجهها الغرب مؤخرا، بما في ذلك أزمة اللاجئين والأزمة المالية العالمية والهجمات الإرهابية واتساع نطاق الشعوبية. مما يفرض على البلدان الغربية ضرورة تقييم الوضع العام فيما إذا كان نموذجها الليبرالي يتماشي مع باقي دول العالم، وما إذا كانت بحاجة فعلية إلى تقبل النماذج الجديدة الناجحة والتعايش السلمي بين مسارات التنمية في البلدان الأخرى.
ويعبر مؤتمر ميونخ للأمن 2020 في جوهره عن الجهود الجماعية المبذولة من قبل البلدان الغربية والساعية إلى تحقيق المصالح المشتركة والبحث عن إطار تنموي عالمي أفضل. حيث أن التحدي المشترك الذي بات يواجه جميع البلدان حاليا هو كيفية التخلص من الانقسامات التي تفصل بين العالم الغربي والشرقي ، لأن تسليط الضوء على الاختلافات لن يؤدي إلا إلى مزيد من الانقسامات.
وثانيا ينبغي أن تتحمل البلدان النامية المزيد من المسؤولية الدولية وأن تشارك على نحو أكبر في بناء وإرساء قواعد الحوكمة العالمية. ومن المحتمل إزاء ذلك أن تنظر الدول الغربية إلى الأوضاع الجديدة بمزيد من الاهتمام لأن البلدان الناشئة حديثًا تختلف كثيرًا عما كانت عليه من قبل خلال العقدين الماضيين. فقد باتت جهود تلك البلدان ملموسة على نحو واضح من حيث المساهمة في نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي ، والمشاركة في النقاشات الدولية المزيد حول القضايا العالمية الملحة، وحماية حقوق الملكية الفكرية وتشجيع الانفتاح والتجارة الحرة ، والمساهمة بوجه عام في خلق مجتمع دولي يتسع للبشرية بأسرها في المستقبل.
وبالنظر إلى الصين باعتبارها الدولة الناشئة الأكبر عالميا، فقد بات ملحوظا قدرتها على تحمل مسئولية المشاركة في الشؤون الدولية، وذلك منذ بداية عهد الإصلاح والانفتاح ، حيث قدمت الصين مساهمات ذات قيمة للاقتصاد العالمي في الوقت الذي عززت قدراتها داخليا أيضا. ووفقًا للبنك الدولي ، فقد نجحت الصين في انتشال أكثر من 700 مليون من سكان الريف من الفقر ، بما يمثل أكثر من 70 في المئة من سكان العالم الذين يعيشون في فقر مستمر منذ أوائل الثمانينات.
ومن المساهمات الواضحة للصين خلال السنوات الأخيرة ، اقتراح مبادرة الحزام والطرق كما شرعت في إنشاء مؤسسات جديدة للحوكمة العالمية ، مثل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية والذي ساهم نسبيا في سد الفجوة في النظام العالمي التقليدي لإرساء قواعد البنى التحتية. وفي الوقت نفسه ، تلعب الصين دورا بارزا في الدفاع عن التعددية مما يسهم في تحقيق الأمن والازدهار والاستقرار في المنطقة.
لا شك أن ثمة بعض الدول تشعر بالقلق إزاء الدور الصيني المتعاظم عالميا، مما يفرض على الصين ضرورة ممارسة المزيد من الانفتاح على العالم. ففي الوقت يتشابك ويندمج فيه المجتمع الدولي في إدارة الخلافات والمناقشات ، يجب على الصين أن تواصل إسهامها في بناء مجتمع مشترك للبشرية في المستقبل.
وثالثا ، ينبغي على جميع البلدان أن تسهم معا في خلق عالم جديد تحت مظلة العولمة المستندة إلى مفاهيم المساواة والشمولية والعدالة، وبخاصة في ظل حالة انعدام اليقين في مستقبل البشرية ، فالانقسامات والمواجهات والتنصل من المسؤوليات لن تؤدي إلى حل المشاكل على الإطلاق.
وختاما فإنه ينبغي القول بأنه سواء تقلص دور الغرب أم لا، ينبغي على الصين في جميع الأحوال أن تسهم بصورة أكبر في تحقيق التنمية العالمية وإبراز دورها في المجتمع الدولي.
رابط المقال بالإنكليزية اضغط هنا
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا