على ابواب الثورة الصناعية الرابعة: هل يمكننا أن نصبح بشرا خارقين ؟ | د. محي الدين الشحيمي
للأشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
الى اين يتجه العالم ؟
نحن نتساءل وبصفة متواترة حول ما الذي يحدث للعالم الآن ؟ وكل شئ يتغير , ذلك أن فكرة الكائن البشري نفسه كمفهوم طبيعي وانساني وبيولوجي ستتغير حقا , سوف تصبح أجسادنا عالية التقنية حتى اننا لن نستطيع ان نفرق حقا بين ما هو طبيعي وما هو اصطناعي , وبداخل رؤوسنا يقع أعقد ترتيب للمادة في الكون المعروف , والسؤال الذي يطرح نفسه هنا , هل يمكننا أن نصبح بشرا خارقين ؟
نحن على أعتاب ثورة جديدة وهي الرابعة في الترتيب الحديث , حيث ان الثورة الصناعية الأولى والاصلية كانت مدفوعة باكتشاف امكانية استخدام المحركات البخارية للقيام بأشياء مثيرة للغاية حينها , وأعقب هذا الأمر ثورات أخرى خصوصا التي احدثتها الكهرباء في الثورة الثانية من اجل الوصول الى الانتاج الواسع النطاق وركزت الثورة الثالثة على تكنولوجيا الاتصالات والحواسيب وعلى استخدام الالكترونيات وتقنية المعلومات لأتمتة ورقمنة الانتاج .
فالعالم اليوم في المراحل المبكرة للثورة الصناعية الرابعة والتي تجمع بين الانظمة الرقمية والانظمة الفيزيائية والبيولوجية والانسانية تحت مبدأ الدمج المطلق للعالمين المادي واللامادي , المحسوس وغير المحسوس , اذ تتمحور الثورة الصناعية الرابعة حول مزج التقنيات والتي تلغي الحدود الفاصلة بين كل ما هو فيزيائي ورقمي وبيولوجي وانساني في ظل توليفة من التطورات التقنية المتسارعة وبتزاوج بين الطبيعي والاصطناعي بشكل كامل ومخيف والتي يمكن ان تتطابق او حتى تتجاوز البشر في الذكاء , والتي سيمتد تأثيرها وفرقها الكبير الى اغلبية دول العالم في غضون العشر سنوات الأخيرة , حيث أن أحد أهم خصائص هذه الثورة في انها لا تؤثر ولا تغير فيما نقوم به من وظائف انسانية بل سوف تغيرنا بالكامل من حيث العادات والتقاليد والسلوكيات الجزئية والتصرفات وعلى نحو شامل وملحوظ .
سنتمكن من الاطلاع والتعرف على انفسنا وعلى حقيقتنا بطرق لم نتخيلها ممكنة من قبل مع التوصل مثلا لقدرة تطوير الانشطة الجزئية لجسم الانسان وخلاياه كعمل الدماغ والخلايا العصبية والعين , خصوصا بأجهزة التخطيط الموجهة للمستهلك , فهنالك الآن أساس علمي لتأثيرات الادراك على كل شئ تقريبا كالشيخوخة والدماغ والخلايا العصبية , فعندما يعرف المخ البشري نفسه سوف تظهر حينها وبشكل تلقائي الامكانية لنهضة جديدة والتي ستعيد بالتأكيد هيكلة نفسها فيما يخص علاقتنا بالحياة والكوكب وعلاقتنا بالعمل ونشاطنا أيضا , فهناك في جسمنا صناديق سوداء غير التي موجودة في الطائرة وسوف تفتح وتتيح لنا ان نكتسب حقا هوية تتسم بالطموح .
لذلك الامر نحن بحاجة لنموذج اقتصادي مختلف , ولا اعني هنا بشكل او بآخر المواجهة بين الرأسمالية والاشتراكية او المفاضلة بينهما , بل ما اقصده بالتحديد أكثر هو حدوث تغيير في النظام بنفس منوال التبدلين الكبيرين واللذين وقعا في القرن المنصرم , فالتجمعات الاقتصادية الكبيرة تحتاج وبشكل دائم الى تركيز هادئ للتقنيات وتطور منظم للتكنولوجيا مولدة بشكل ممنهج العصرية تلك الكتلة المتنامية من حياة البشر والانسانية والتي دعمت بشكل مفرط وبكل مقدامية النظام النقدي والتالي تحصين الدين والقروض, وأنشأت نظاما ماليا احتكاريا بنزعات متطرفة فكان الغلو في استبداد المدن حيث ان المدن والنقد وجمهورهم البشري من ابرز المحركات والمؤشرات للتغيير والتجديد .
لقد ركزت النظرية الكنزية بشكل صريح على الصحة والتعليم ودور الحكومات بالتعاون مع الشركات وكانت ردة الفعل على هذا النموذج في نهاية القرن المنصرم والمتمثلة في ” النيوليبرالية ” , حيث كان التركيز على الاسواق الحرة وحرية الفرد وازاحة الحكومات رويدا رويدا عن المشهد واحلال الشركات الكبرى والماركات والمؤتمرات بديلا عنها .
فالعقار والمنزل هو رأسمال والقمح والحبوب على انواعها والاليات والطرقات كلها ايضا رأسمال , الا ان الرأسمال لا يستحق اسمه الا اذا شارك في سياق انتاج متجدد حيث ان مبلغا من المال غير مستعمل او اي منتج غير مستثمر لا يمكن ان ينظر اليه على انه رأسمال , فقد كان لديهم المزيد من الآليات والطرق والتي مكنتهم من تشويه اللعبة لمصلحة النزعات الاحتكارية والتي تمكن من خلالها النقد السئ في طرد النقد الجيد , فالغاية الصريحة من كتلة رؤوس الاموال هي فقط للحفاظ على امتيازاتهم واحتكار الاعمال من حيث الكم والمكان .
لذلك نلاحظ بان اقتصاد السوق سريع التمدد والانتفاخ ليشكل الفقاعة وعلى حساب الاقتصاد نفسه ومن ثم تنفجر مشكلة أزمة جديدة تكون نتيجتها تبديد راسمال وفقدانه وفوز الرأسمالية اي ( الكتلة الاحتكارية للنموذج ) اي بأنه يضحي بنفسه من اجل تجديدها .
ان افضل سبب يبرر لنا اللجوء الدائم الى نموذج الرأسمالية او الاشتراكية وعلى الرغم من فقدانهم بعض الاعتبارات يعود الى الفشل في خلق بديل عنهم ونظم مقابلة لهم , لقد كان هناك رأس مال قبل الرأسمالية وكان لدينا تعاون واشتراك قبل الاشتراكية , لكن الثورات والازمات هي السبب الرئيسي لوجود هذين النموذجين الرأسمالي أوالاشتراكي كنظامين للحكم , والتي نسجت مع تشكل العالمين الرأسمالي والاشتراكي بانماطهم ومواردهم البشرية وقوانينهم شاطرين بذلك العالم الى نصفين متخاصمين ومتحاربين مع بعض التعاون لهذه القوى من اجل التوازن ولعدم انفلات الامور , ففي خضم النظام الرأسمالي كان هنالك لمحات من الاشتراكية وبصلب المجتمع الاشتراكي كان هنالك نزعات رأسمالية , فالاشتراكية والرأسمالية نهجان ظرفيان بالمضمون ويعتمدان على توازن دقيق للقوى العالمية .
لا يمكن للرأسمالية أو الاشتراكية الاستمرار من دون تواطؤ المجتمع الفعلي معها وبالاعتماد على المقومات الحقيقية للنظام الاجتماعي والسياسي وكذلك الواقعين الثقافي والحضاري , فالتاريخ الاقتصادي ليس اخلاقيا ونبيلا بالمطلق , هو عبارة عن تاريخ كامل للبشرية والمسيرة الحقيقية للفاعلين الكبار , حيث لدينا في واقع الامر عدة عوالم اقتصادية غريبة عن بعضها مع نوع من التداخل حينا والتوازن حينا آخر , فهناك العالم البسيط المستقل والمعتمد في الحد الادنى على الاكتفاء الذاتي ولدينا اقتصاد السوق ولكل عالم جماعته وسلوكياته واعرافه ونستطيع تفهم كل جماعة من خلال تفسير سلوكيات الجماعة المقابلة .
نحن نحتاج حكما للتغيير في الولوج الى نظام جديد يتيح لنا بالدرجة الاولى تلبية الاحتياجات الاساسية لكل انسان على الارض , اكثر انصافا واتساقا بالعدالة ويعتمد على موارد كوكبنا المتاحة , ويركز كهدف أساسي ليس على النمو في حد ذاته بل على تقديس وتعظيم رفاهية الانسان .
للأشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا