نيويورك تايمز: الملبس مقابل الحياة… ملامح الازمة الاقتصادية في لبنان
المقايضة من أجل الحياة .. ملامح من الأزمة الاقتصادية في لبنان
صيف قاس بلا كهرباء، طوابير من الناس أمام الصرافات، وغيرها من المشاهد اليومية في البلاد والتي أصبحت بمثابة أسلوب حياة فرضته الأوضاع الاقتصادية المتردية على المواطنين اللبنانيين، فمن المسئول عن توجيه تلك الضربات المتلاحقة إلى كبرياء ذلك البلد العظيم!
لاحظ الشيف اللبناني الشهير أنطوان الحاج، والذي اعتاد على تقديم فنون الطهي لمتابعي حلقاته التليفزيونية، أن الظروف الاقتصادية القاسية التي يعاني منها الشعب اللبناني وبخاصة على مدار الأشهر الأخيرة قد أثرت بالطبع على النظام الغذائي للمواطنين، والذين باتوا غير قادرين على توفير بعض البنود الغذائية الرئيسية داخل منازلهم كاللحوم مثلا، ومن هنا قرر تغيير الأنماط الخاصة بوصفاته الغذائية والتركيز على كيفية إعداد وجبات قليلة الدسم تعتمد على الخضروات الغير مكلفة.
لقد تسبب الارتفاع الجنوني للأسعار الناجم عن انهيار العملة الوطنية اللبنانية في انجراف الطبقة الوسطى نحو عداد الفقراء، حسبما قال الحاج في مقابلة تليفزيونية معه الأسبوع الماضي، مؤكدا على أن أغنياء لبنان لازالوا أغنياء، أما فقراءهم فقد ازدادوا فقرا.
الفساد الحكومي وسوء الإدارة المالية قد دفعا البلاد نحو ارتفاع معدلات البطالة والفقر وإفلاس الشركات، فضلا عن فقدان الرواتب قيمتها في ظل التضخم الفاحش. الأمر الذي أدى بدوره إلى اندلاع الاحتجاجات الشعبية في أكتوبر الماضي والتي أحيانا ما كانت تنساق نحو العنف، ورغم انحسار حركة المظاهرات بسبب إجراءات الإغلاق التي قامت الدولة باتخاذها في أعقاب انتشار عدوى كوفيد 19 إلا أن تلك التدابير الاحترازية ما زادت التظاهرات إلا انتعاشا نظرا للصعوبات المضاعفة التي عانى منها المواطنون في ظل الإغلاق الكامل للبلاد.
لقد أصبح شبح الانهيار الاقتصادي يخيم على كافة ملامح الحياة في لبنان، انقطاع الكهرباء، وتعنت البنوك مع المودعين، وصار الإيقاع اليومي لحياة المواطن متمثلا في النضال من أجل توفير الضروريات وسد الاحتياجات الأولية للأسرة.
ولطالما عجزت الحكومات اللبنانية المتعاقبة عن إيجاد حلول جذرية لأزمة الكهرباء، إلا أن الوضع قد تفاقم مؤخرا لدرجة جعلت ضجيج مولدات الطاقة المزعجة يتفوق على صخب حركة المرور المعتاد في شوارع بيروت، ناهيك عن العوادم الناتجة عن تلك المولدات والتي تتسبب في إفساد الهواء، مما يضطر بعض البنايات إلى إيقاف تشغليها ليلا وحرمان السكان من النوم بسبب توقف مكيف الهواء عن العمل في الليالي الصيفية الحارة.
والأسوأ من ذلك، أزمة انقطاع الكهرباء عن المستشفيات، ومن بينها مستشفى رفيق الحريري المعنية بعلاج حالات كوفيد 19 لقد تسبب الانقطاع المستمر للكهرباء بالمشفى لفترات تقارب ستة ساعات يوميا إلى إغلاق غرف العمليات وإيقاف العديد من الجراحات، حسبما أكد مدير المشفى الدكتور فراس أبيض، والذي وصف الكارثة بأنها محاولة دون جدوى لإطفاء حريق مستعر لا يخبو أبدا.
بيروت التي أصبحت تعيش في الظلام ، أصبحت شبيهة بغابة مهجورة مليئة بالأحراش الغامضة، فقد هجر المواطنون طرقاتها الحالكة، وانطفأت الإشارات المروية تاركة قائدى المركبات يتسابقون في الشوارع الرئيسية كما يحلو لهم واثقين بأنه لا رادع لهم.
لقد راهن أهل موطن الأرز على تميزهم بين شعوب المنطقة من حيث كونهم يحظون بمستويات مرتفعة من الرفاهية، ولكنهم باتوا الآن يتساءلون عن مدى استمرارية تراجع مستوياتهم المعيشية.
ذلك الشعب المثابر عادة ما يجد طريقه للحصول على الطعام والشراب، ولكن الظروف الاقتصادية العصيبة قد جعلت حتى أبناء الطبقة المتوسطة عاجزين عن مجرد التفكير في تناول الطعام خارج المنزل، فقد أصبح الأمر بمثابة مغامرة مكلفة بالنسبة لهم.
فقدت الليرة البنانية قيمتها في السوق السوداء منذ نهاية العام الماضي، حيث واصلت ارتفاعها أمام الدولار لتبلغ قيمة الدولار الواحد نحو 9.500 ليرة بعيدا عن السعر الرسمي المحدد من قبل المصارف الرسمية وهو 1500 ، ليسخر منها بعض المغردون على تويتر قائلين رغم كونها الأرخص إلا أنها غير مرغوب فيها.
ويرجع الشق الأكبرمن الأزمة الاقتصادية إلى القرارات المصرفية المتخبطة التي أثارت حالة من الفوضى نظرا لتبني ما سمي بـ “مخطط بونزي” والذي حث البنوك التجارية على إتمام بعض الودائع الدولارية مرتفعة الفائدة، وتلك الفوائد لا يمكن تغطيتها إلا من خلال استقدام المزيد من المودعين وهكذا.
ولكن هذا النظام قد أثبت فشله الذريع ليتم إيقاف العمل به العام الماضي نظرا لعزوف رجال الأعمال والمستثمرين اللبنانيين في الخارج عن ضخ الأموال إلي موطنهم الأصلي، ما أصاب المصارف بعجز شديد في أرصدتهم من النقد الأجنبي، وجعلهم يتعنتون في صرف الدولارات إلى المودعين.
ويرجع الفضل للمصرفي اللبناني دان قزي في صياغة مصطلح Lollars للإشارة إلى الدولارات المتوفرة لدى الدولة في صورة نظرية فقط وليست واقعية، مما خلف حالة من الفوضى والمزيد من الشعور بالألم.
وعمدت الحكومة بكل طاقتها إلى محاولة السيطرة على السوق السوداء، واعتبار أي عملية خفية لاستبدال العملات بمثابة جرم يعاقب عليه القانون، مما دفع المواطنون الراغبون في الحصول على الدولارات إلى مقابلة صرافي السوق السوداء خلسة خشية الاعتقال.
لقد أثرت الأزمة الاقتصادية على نحو فاق جميع التصورات على حياة المواطنين، ولعل حوادث الانتحار الأخيرة هي خير دليل على ذلك، فقد ترك أحد الأشخاص الذين قاموا بإطلاق الرصاص على أنفسهم رسالة بخط اليد مدون عليها عبارة “أنا لست كافر” وهو جزء من أغنية شهيرة تستكمل العبارة “ولكن الجوع كافر”.
وقد أدى الوضع المأساوي في لبنان إلى إنشاء مجموعة على الفيسبوك تستهدف تيسير عمليات المقايضة بين المواطنين حيث يتم تبادل كل شئ عبر المنشورات حتى حفاضات الأطفال أيضا، ولعل التجوال بين أروقة هذه المجموعة التي تحمل اسم Lebanon Barters يجعلك تشعر بأنك تقرأ إحدى القصائد الشعرية المثيرة للشفقة.
ومن المنشورات التي أثارت حفيظة القراء، قيام سيدة وأم لستة أطفال بعرض فستان طفلتها الصغيرة للمقايضة مقابل الحصول على السكر أو اللبن أو الخبز، وقالت المرأة في مقابلة تليفونية لاحقة معها بأن زوجها الذي كان يتقاضى 200 ألف ليرة في الأسبوع بما يوازي سابقا 130 دولار أصبحت القيمة الحقيقة لراتبه لا تتجاوز ال 30 دولار مما أصاب أسرتها بالفقر المدقع وجعلهم يتخطبون يمينا ويسارا من أجل إطعام أطفالهم.
وبالعودة مجدا إلى الحاج فقد قال قبل البث التليفزيوني لحلقته على الهواء الأسبوع الماضي، إن كل ما يهمني هو أن يجد الناس ما يأكلونه، سأحاول إيجاد طرق متنوعة لتشجيع المواطنين على التكيف مع الظروف.
مشيرا إلى أنه تلقى مكالمات سابقة من مواطنين يطلبون مشورته في كيفية الحفاظ على الطعام في ظل الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي، وقد نصحهم باستخدام الخضروات في صورتها المعلبة أو المجففة، وغمس اللحوم في بعض الدهن كي لا تفسد.
مؤكدا على أن وصفاته القادمة ستركز على الظروف المعيشية للمواطنين.
رابط المقال من المصدر اضغط هنا