دولي

الاحتجاجات في أمريكا ..حاضر ذو ماض عميق

كان اندلاع الاحتجاجات المناهضة للعنصرية في أمريكا على نطاق أكبر من الحركات المناهضة للحروب والتي اندلعت في الماضي في أواخر الستينات ومطلع سبعينات القرن الماضي؛ بمثابة ناقوس خطر يعطي إشارات تحذيرية من هول المشهد الحالي في الشارع الأمريكي. لقد كشف مقتل جولاج فلويد على أيدى الشرطة الأمريكية في مينيابولس عن العنصرية الراسخة في العقيدة الأمريكية بل والطبقية التي يرعاها النظام الحاكم أيضا.
والحقيقة أن اشتعال فتيل تلك الاحتجاجات مؤخرا كان نتيجة الإحباط والكبت والسخط على النظام العنصري وغياب العدالة، حيث يمكن القول بأن خروج المواطنين إلى الشوارع في مثل تلك الظروف العصيبة التي تعصف بالعالم يعد بمثابة صرخة استفاقة ضد الظلم الممنهج ودعوة لإسقاط زيف ما يسمى بـ الحلم الأمريكي.
نعم، الحلم الأمريكي الذي اعتقد الجميع يوما ما أن من يجتهد في عمله بإمكانه أن يشق طريقه إلى المجد ويحقق هذا الحلم، ولكن سرعان ما تغيرت قواعد اللعبة، فقد أصبح القادر على تحقيق ذاك الحلم فقط، هو من يملك زمام الأمور، ويعطي تمويلا غير محدود للديون، ويتلاعب بعقول الجماهير من خلال الشركات الإعلامية الكبرى. أي من يملك سطوة المال والنفوذ فقط.
لقد انتفض الشارع الأمريكي تنديدا بالنظام الطبقي الذي يجعل الأثرياء أكثر ثراء ويعمل على تلاشي الطبقى الوسطى تدريجيا لتلحق بأقرانها من أصحاب الطبقة الفقيرة، إنها أزمة الديون التي تجعل المجتمع منقسما على نفسه وتخلق أزمات أكثر تعقيدا، وتمايز بين البشر من حيث العرق والدخل وغيرها من السمات. ورغم سلمية الاحتجاجات في بادئ الأمر إلا أن الجميع تساءلوا عن احتمالية حدوث التغيير.
فالهجوم على العلامات التجارية لم يكن بغرض السرقة تحت مظلة الفوضى العارمة فقط بل جاء مدفوعا بالغضب من السياسات الاقتصادية التي طالما تشدقت بشعارات المنافسة النزيهة بين الجميع، ولكن الواقع أن النظام الأمريكي الحاكم قد أفسح المجال لتلك العلامات الكبرى لممارسة الاحتكار وبسط هيمنتها على أسواق رأس المال، بما يضمن له انتعاش أسعار الأسهم، الأمر الذي جعل الجميع يغرقون في قاع الدين.
ولطالما نفى الاقتصاديون الأمريكيون تعرض دولتهم للركود، ولكن ما يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية حاليا يمكن تشبيهه بأزمة الكساد العظيم التي وقعت في عام 1930. فقد أدت الحروب المختلقة المدفوعة بمرجعيات أيدولوجية والتي تزعمتها واشنطن إلى استنزاف موارد الدولة، كما أن الأموال التي تم طباعتها كظيهر للديون تحولت في الأخير إلى مكافآت ضخمة يحظى بها كبار المصرفيين والمستثمرين والمدراء التنفيذين للشركات الرائدة في مجال صناعة التكنولوجيا، كل أولئك هم المسئولين عن خلق حالة من الفوضى في وول ستريت وما يسعون إليه فقط هو تحقيق الأمجاد الشخصية.
ولأن لكل ظاهرة أصل، فقد نشأت تلك الحالة منذ إصدار قانون جلاس ستيجال THE GLASS-STEAGALL ACT في عام 1933 خلال أزمة الكساد الكبير، وقد كان الهدف من هذا القانون هو الفصل بين الخدمات المصرفية التجارية والاستثمارية، وحماية المودعين من مخاطر الاستثمار. واستمر العمل بهذا القانون حتى ثمانينات القرن الماضي، حيث طالب المصرفيون الرئيس الأمريكي رونالد ريغان بإلغائه، في الوقت الذي تبنى فيه الديمقراطيون مبادئ الليبرالية الجديدة، إلى أن تم إلغاء العمل به فعليا في عهد الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في عام 1999
وما حدث لاحقا كان بمثابة حالة هياج في أسواق الأوراق المالية، حيث لم يعد تقييم قطاع الشركات مبنيا على أسس الربح والخسارة، وهو المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه الاقتصاد، بل أصبح برمته متعلقا فقط بقيمة المساهمين، كما أصبحت المضاربة على وسائل التواصل الاجتماعي فيما يعرف بالتكنولوجيا الكبرى هي سمة العصر، كل ذلك لم يكن تحقيقه ممكنا إلا من خلال كميات هائلة من السيولة المستندة إلى الدين الحكومي.
وعندما وقعت أزمة الرهن العقاري في عام 2008 فقد الناس وظائفهم ومنازلهم وأصبحوا مشردين مما دفعهم نحو المطالبة بالتغيير ولكنهم ظلوا يتساءلوا عن إمكانية حدوث ذلك. هذا في الوقت الذي استمرت فيه الحياة على ذات المنوال لمدة عشر سنوات أخرى من السيولة المدعومة بالديون، مما جعل الأثرياء أكثر ثراء، وأحكم قبضة شركات التقنية الكبرى على زمام الأمور بل وعقول الناس أيضا من خلال التحكم في الخوارزميات والبيانات الضخمة. ولكن أولئك الناس لازال بإمكانهم أن يشعروا ويفكروا ويتدبروا..
ومع استمرار الاحتجاجات والفوضى وقمع الشرطة إلى جانب الفيروس القاتل الذي لازال يحصد أرواح الكثيرين، لوحظ ارتفاع أسعار الأسهم على نحو غير مسبوق، مما يؤكد بأن وول ستريت تحيا في قصر عاجي منفصلا عن واقع الشارع الأمريكي. والآن حان الوقت لأولئك الساخطين على النظام الأمريكي الخاطئ أن يعبروا عما يجول في العقول ويختمر في الصدور، نعم إنها الموجة الجديدة من الاحتجاجات والتي تسعى إلى تصحيح جميع أخطاء الماضي.
رابط المقال
اضغط هنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى