اظهرت التطوّرات الأخير ة الدائرة عالمياً حول اللقاحات المُضادة لفيروس كورونا عدّة مشكلات جيوبوليتكية خطيرة يبدو من خلالها انّ الصراع الدولي على “الريادة والهيمنة وفرض السلطة والتأثير” لا يزال في أوجّه بل انه إستعرّ من جديد منذ بداية ظهور الفيروس الذي تطوّر من وباء الى جائحة عالمية حصدت حتى اليوم حياة مليون وربع مليون شخص تقريباً وتسبّبت بإصابة حوالي مئة مليون شخص في معظم دول العالم. وقد ظهر جلياً منذ بداية إنتشار هذه الجائحة ان الإدارة الإميركية التي كان يقودها دونالد ترامب حتى وقتٍ قريب حاولت عدّة مرّات إلقاء التهم المُختلفة على السلطات الصينية وتحميلها اللّوم عن ما حصل ويحصل، تارة عبر القول انه تمّ إخفاء مُعطيات اوّلية حول مدى وخطورة إنتشار الفيروس في مدينة “ووهان” حيث ظهر الفيروس في الصين لأوّل مرّة في كانون الثاني 2019، وانّ السلطات تأخرّت في إبلاغ منظمة الصحة العالمية بمعطيات مُهمّة حول مخاطر الفيروس وتوسّع إنتشاره، وحول إمكانية ان يكون الفيروس قد أُفلت من ايدي الخبراء الصينيين في مدينة “ووهان” أيضاً وحول غيرها من المعطيات. او عبر القول ان الصين قد صنّعت هذا الفيروس لضرب الإقتصادات الغربية بما فيها إقتصاد الولايات المتحدة الإميركية تحديداً خاصة وان الصين تُنافس اميركا منذ فترة طويلة في حربٍ إقتصادية شهدت السنوات الأخيرة اوجه كثيرة لها. هذا الكلام سمعناه تحديداً على لسان الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي اصرّ حتى آخر يوم من ولايته بتسمية الفيروس بـ “الفيروس الصيني” في محاولاته للإشارة للمؤامرة الصينية التي تبنّاها دون اي دليل علمي قاطع. كل ذلك دفع مُؤخراً وتحت الضغط الدولي، منظمة الصحة العالمية لإرسال فريق من الخبراء الدوليين لتقصّي الحقائق حول كل هذه الإشعاعات والإتهامات. وهو فريق باشر عمله منذ ايام في الصين بعد ان اكمل فترة الحجر المطلوبة منه بعد وصوله الى الأراضي الصينية.
١- الفصل الأول ومعركة الكمامات:
وقد سمعنا وعلمنا جميعاً خلال السنة الماضية بـ “معركة الكمّامات” وبالحرب التي دارت فصولها في عدّة دول بين آذار ونيسان ٢٠٢٠ حول الحصول عليها وعلى آلات التنفس الإصطناعي وغيرها من المستلزمات الطبيّة التي احتاجتها دول مُتعددة بكميات مُهمة خلال الموجة الأولى من الجائحة التي حصدت مئات آلاف الأشخاص في اوروبا والولايات المتحدة الأميركية. وكيف ان مسؤولي بعض الدول دفعوا الثمن السياسي الكبير في بلادهم عبر صناديق الإقتراع كان ابرزهمعلى صعيد المثال لا الحصر امانوييل ماكرون في إلإنتخابات البلدية التي دارت في فرنسا خلال السنة الماضية ودونالد ترامب خلال شهر تشرين الثاني الماضي لأنهم أُتهموا بأنهم لم يكن لديهم رؤية واضحة وتخطيط بعيد المدى لمواجهة هكذا كوارث او اوبئة. وانهم عرّضوا شعوب بلادهم لخطر كبير عبر سوء إدارتهم لملف أزمة كورونا وعدم التخطيط لتخزين كميات كبيرة من المُستلزمات الطبية والكمّامات وبعض الادوية الأساسية (خاصة ادوية التخدير والبنج) التي وجدوا ان “مخازنهم الإستراتيجية” منها فرغت بسرعة منذ الأيام الأولى للأزمة، وبحيث وجدوا انفسهم جميعاً رهينة للمصانع والشركات الصينية التي كانت المُصنّع الأساسي لكل تلك المستلزمات لفترات طويلة منذ بداية الأزمة. ونذكر جميعاً ايضاً كيف ان بعض الدول لجأت احياناً الى اساليب القرصنة والمُصادرة ودفع اسعار مُضاعفة في محاولتها للحصول على بعض المستلزمات الطبية التي كانت متوجّهة لوجهة معيّنة (تركيا مثلاً) وتمّ تغيير وجهتها نتيجة المنافسة ودفع اسعار مُغرية اكثر للشركات المُصدّرة (الولايات المتحدة الأميركية)، في ظاهرة غريبة لم تشهد البشرية مثيلاً لها منذ زمنٍ طويل.
٢- معركة اللقاحات:
واستمرّت فصول هذا التنافس الدولي مع إستعار الحرب على تطوير اللقاحات. حيث بدأت كل دولة من الدول الكبرى بتقديم دعم مالي هائل لتمويل مراكز الأبحات والجامعات وشركات تصنيع اللقاحات والأدوية الوطنية الموجودة على اراضيها في محاولة لتحقيق خرق ما، قد يُوظّف سياسياً و/او إقتصادياً فيما بعد للتبجّح والإستعلاء على باقي شعوب العالم ودوله ولإظهار نقاط القوة والتقدّم والريادة في تلك الدول. وعمدت كل دولة من العمالقة الدوليين وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية ودول الإتحاد الأوروبي والصين وروسيا والهند وغيرها لمحاولة تسجيل السبق الطبي والعلمي وبالتالي الإقتصادي لتبيان تفوّق هذه الدول واهليّتها لتصدُّر دول العالم في هذا المجال العملي- البحثي- التكنولوجي ولتحقيق مكاسب سياسية، إقتصادية ومالية هائلة فيما بعد. وبالفعل فقد شهدت مراكز الأبحاث العالمية عدّة مشاريع لقاح وصل عددها لحوالي 200-250 “مشروع لقاح” ووصل منها إلى التصفيات النهائية اي الى مرحلة التجارب السريرية من المرحلة” الثالثة” عدّة لقاحات معظمها اميركية- اوروبية او اوروبية- اوروبية، اربعة لقاحات صينية، إضافة الى ١٥ لقاح صيني جديد جرى الإعلان عنها منذ ايام، عدّة لقاحات هندية، لقاح أسترالي، لقاح إيراني ولقاحات اخرى مُعتدّدة جرى العمل على تطويرها في عدّة دول أخرى.
وحالياً ومع إشتداد الأزمة الصحية العالمية الناتجة عن الجائحة وبلوغها ذروتها منذ انطلاقها في الصين في شهر كانون الأول 2019 وبحيث يصل اليوم عدد الحالات الجديدة من المُصابين بالفيروس إلى 250 ألف حالة جديدة ظهرت مشكلة عالمية لها أبعاد سياسية- اقتصادية خطيرة، أظهرت أن المسؤولين السياسيين في بعض الدول اختاروا الجنوح نحو بعض الأنانية ولتفضيل المصالح الوطنية لبلادهم ووضعها قبل كل شيء ولو كان ذلك على حساب كل المواقف والتصريحات المُطلقة سابقاً وعلى حساب كل الإتفاقيات والمواثيق المُتّفق عليها في الأصل، في ظاهرة أخرى غريبة لم تشهدها البشرية من قبل. وقد ظهر ذلك جلياً حين ظهر الى العلن في الأيام الأخيرة الصراع الكبير بين شركة استرازنيكا البريطانية-السويدية وبين مسؤولي الإتحاد الأوروبي.
فكلنا نعلم أن معظم الدول الغربية، وخاصة حكومات الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي موّلت في بداية إنتشار الفيروس وتطوّره الى جائحة مراكز الأبحاث والدراسات بهدف الحصول على لقاحٍ سريع للجائحة والسعي للقضاء إذا امكن على فيروس كورونا، لإقتناعهم بأن هذا الحلّ هو الحلّ الأساسي المُمكن والفعّال في الحدّ من إنتشار الفيروس والأمل في القضاء عليه وإيقاف مُسلسل الخسائر الهائلة في الأرواح وفي الإقتصاد الذي نتجت عنه. لكنّ تطوّر الأحداث الأخيرة وتدهور الأوضاع في المملكة المتحدة البريطانية كشف لنا مؤخراً أن الشركة البريطانية-السويدية تعرّضت لضغوط من قبل السلطات السياسية البريطانية من أجل أن تكون كميات اللقاح المُصنّعة في مصانع الشركة الموجودة في المملكة المتحدة من حصة البريطانيين وحدهم دون غيرهم في قرار يُعزّز ما كنا قد ذكرناه من بروز النزعة القومية والوطنية لدى معظم مسؤولي دول العالم الذي تخلّى معظمهم عن شعارات التعدّدية والمشاركة والتعاون الدولي لما فيه مصالح كل شعوب العالم بما فيها الفقيرة منها.
٣-حيثيات المشكلة بين دول الإتحاد الأوروبي وأسترازنيكا:
المشكلة بين الطرفين بدأت في الظهور إلى العلن منذ حوالي أسبوعين مع ورود إنتقادات شديدة من قبل السكرتيرة الأوروبية لأمور الصحة وسلامة الغذاء “ستيلا كيرياكيديس” التي توجهت بإنتقادات لاذعة للشركة التي اعلنت انها لن تستطيع تسليم دول الاتحاد الأوروبي ال 27 سوى ثلث كميات اللقاح التي كانت موعودة أو مُتّفق عليها ضمن الإتفاق السابق المُوقّع بينهما. وكان الاتحاد الأوروبي، في بداية الأزمة، قد موّل صندوق الشركة بمبلغ وقدره 335 مليون يورو مُوزّعة على عدّة دفعات، مُقابل الحصول على 400 مليون جرعة من اللقاح من ضمنها 80 مليون جرعة يجب تسليمها في الربع الأوّل من العام 2021. لكنّ الشركة أعلنت منذ فترة أنها لديها مشكلة في التّصنيع في أحد المصانع الخاصة بها وهو تحديداً المصنع الموجود في جنوب بلجيكا. ولذلك فهي لن تكون قادرة على تسليم سوى ثلث كميات اللقاحات التي كانت مُتّفق عليها. وهذا ما استدعى الكثير من الاجتماعات والتصريحات والبيانات والبيانات المضادة من قبل إدارة الشركة ومن قبل مسؤولي الاتحاد الأوروبي، الذين يتّهمون مدير عام الشركة بالخضوع لإرادة رئيس وزراء البريطاني بوريس جونسون الذي تعاني بلاده من أزمة حادة نتيجة الإصابات الكثيرة التي أصابت بريطانيا في الفترة الأخيرة والتي جعلتها تتصدّر قائمة الدول الأوروبية بعدد الوفيات التي بلغت رقماً قياسياً هو أكثر من 100 ألف حالة. ولذلك فقد سمعنا ايضاً مؤخرا آراء كثيرة في المملكة المتحدة البريطانية تتهم بوريس جونسون بأنه مُقصّر وأن سياساته كانت جداً خاطئة لناحية إدارة أزمة جائحة كورونا، بحيث إرتفعت اصوات كثيرة مُطالبة بمعاقبته
ومُتّهمة اياه بأنه كان من المُمكن ان يُخفّف الى نسبة النصف عدد الإصابات التي حصلت في بريطانيا لو أن إدارة الازمة كانت مُختلفة ولو أن الإقفال الاوّل كان تمّ اسبوعاً واحداً قبل التاريخ الذي تمّ فيه في بريطانيا خلال الموجة الأولى من الجائحة. ولذلك يحاول بوريس جونسون حالياً تعويض هذه الضربات القاسية التي تلقّاها عن طريق سعيه للإسراع في عملية تلقيح البريطانيين وإحتكار اللقاحات المُصنّعة بواسطة شركة استرازنيكا على الأراضي البريطانية لتلقيح البريطانيين حصراً دون غيرهم من المواطنين الأوروربيين.
وقد اتهم مسؤولوا الإتحاد الأوروبي أن الشركة التي لديها أربعة مصانع: اثنين على الاراضي البريطانية، واحد في بلجيكا وواحد في هولندا، أنها خضعت لضغوط سياسية من قبل الإدارة البريطانية لكي تُعطي الأفضلية لكميات اللقاح المُصنّعة على الاراضي البريطانية لتوزيعها في بريطانيا فقط وحرمان دول الإتحاد من صادرات هذه المصانع. ولكن الشركة اصدرت عدة بيانات أشارت فيها أن لديها مشكله في الإنتاج في مصنعها الموجود في جنوب شرق بلجيكا وهو مصنع فرنسي يعمل لصالح شركة استرازنيكا.
ممّا دفع السلطات البلجيكية لإرسال لجنة تقصّي حقائق لمعرفة حقيقة الأمور في هذا المصنع ومعرفة ما إذا كان كلام الشركة صحيح ام لا. وبنتيجة الأخذ والردّ الذي حصل بين الشركة و السلطات الصحية الأوروبية فُهم بأنّ الشركة ردّت بأنّ السلطات البريطانية كانت قد سبقت الاتحاد الأوروبي بثلاثة اشهر بطلب مائة مليون جرعة من اللقاح. وقد تعهّدت الشركة بشكل خفي لم تتعرف به رسميًّا بأن تكون قدرة المصانع البريطانية مُخصّصة للسوق البريطاني بإمتياز. ولذلك يتّهم مسؤولوا الإتحاد الأوروبي الشركة بالأخلال بالإتفاق، خاصة وان الشركة كانت قد تلقت كما ذكرنا مبلغ 335 مليون يورو لتطوير اللقاح وزيادة قدرات الإنتاج وكانت قد تعهّدت لدول الإتحاد بأنها سوف تزيد من قُدراتها الإنتاجية في كل مصانعها لتلبية الحاجات الأوروبية. هذا المبلغ كله لم يدفع بالكامل وهو مُجزّء على عدة أجزاء.
لكن السلطات الاوروبية تشعر بالغبن و تتهم الشركة بالإخلال ببنود الاتفاق الذي كان يقضي بأن تستلم السلطات الاوروبية 80 مليون جرعة من اللقاح في الاشهر الثلاثة الاولى من العام 2021.
وحتى تاريخ اليوم فإنّ الحلّ الذي لا يزال محل اخذ وردّ بين الشركة وسلطات الإتحاد ينصّ على تسليم ثلث الكميه التي كان من المُتوقّع أن يستلمها الاتحاد اي 31 مليون جرعة في الاشهر الثلاثة الاولى من العام 2021 بدل 80 الف جرعة كانت مُقررة سابقاً. وهذا ما سيترتّب عليه بعض المشاكل القانونية لاحقاً خاصة وان الدفعات لم تُسدّد جميعها حتى تاريخ اليوم. في المقابل فقد أقرّت السلطات الصحية الاوروبية قراراً يوم الجمعة في 28 كانون الثاني2021 يسمح بإمكان الإستعمال الطارئ للقاح شركة استرازنيكا في دول الإتحاد، الا أن السلطات الصحية الألمانية وضعت إستثناءاً كبيراً من خلال عدم إعترافها بفعالية هذا اللقاح عند الأشخاص البالغين 65 سنة من العمر وما فوق. وقد اقرّت أنه يصلح فقط للإستعمال عند الاشخاص البالغين من 18 إلى 64 سنة.
ولذلك فستتوالى فصول هذا الصراع القوي الذي يعتبر أول صراع سياسي اقتصادي بعد خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي. يشار ايضاً إلى أن السلطات الصحية الفرنسية وغيرها من الدول الأوروبية إضطرت أيضاً إلى تأجيل او حتى إلغاء الجرعة الثانية من لقاح “شركة فايزر” الذي بدأ إستعماله في فرنسا وفي معظم دول الاتحاد الأوروبي منذ حوالي شهر وذلك بسب المشاكل الكبيرة في تأمين الجرعات اللازمة من هذا اللقاح. مما سيطرح عمليات استسهام كبيرة حول مستقبل عملية التلقيح في معظم الدول الاوروبية وغيرها من دول العالم لأننا نشهد وقائع تدلّ على انّ الدول ذات السطوة السياسية والاقتصادية سوف تسعى خلال المرحلة القادمة لتلقيح شعوبها بدل السعي لتقاسم اللقاح بين مختلف الشعوب الغنية والفقيرة. أخيراً هنآك قرار إتخذته دول الاتحاد الأوروبي منذ يومين يُنظّم عملية تصدير اللقاحات المُصنّعة على أراضي ال27 دولة التابعة للإتحاد و يقنّن عملية تصديرها في ظاهرة لها دلائل كثيرة حيث أن هذه الدول الغنية ذات القدرات الاقتصادية الهائلة إضطرت لحماية شعوبها من الخسائر الكبيرة التي تسبّبت بها الجائحة بسب النقص الهائل في عدد اللقاحات والمشاكل الكبيرة التي تواجه عمليات الإنتاج السريع في مصانعها. وسوف يكون لكل هذه القرارات تداعيات كبيرة إذ أن كل شركة تودّ تصدير كميات من هذه اللقاحات الُمصنّعة على أراضي دول الإتحاد سوف تكون مُضطرّة لتقديم الطلب لدى السلطات المُختصّة في دولها وأخذ الإذن لذلك ولن يسمح بتوريد سوى الكميات التي تُعتبر مُحقّة أو منطقية بحسب قرار الإتحاد. وهذا ما يؤكد ما ذكرناه حول توالي فصول ظهور مظاهر التفكير الأناني والإبتعاد الكلّي عن التفكير بالآخر عبر هذا القرار الخطير.