قراءة في كتاب من الديكتاتورية إلى الديمقراطية | بقلم صلاح الدين ياسين
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
يندرج هذا المؤلف في خانة الأدبيات التي تعنى بتفكيك موضوع “التحول الديمقراطي” من زاوية أكاديمية، وهو من تأليف البروفيسور الأمريكي الراحل “جين شارب” (1928-2018) الذي سبق ترشيحه لنيل جائزة نوبل للسلام لدوره في الدفاع عن أساليب المقاومة اللاعنفية في مواجهة الأنظمة الشمولية، وهو المبحث الذي كرس له مجموعة من كتاباته وأعماله الفكرية ومن جملتها هذا الكتاب الذي نعرضه عليكم، بحيث يضيء من خلاله على أنجع الوسائل وأكثرها عملية للإطاحة بالنظم الديكتاتورية وبناء ديمقراطيات راسخة.
في البداية، يحذر “شارب” حركات المقاومة الديمقراطية من الرهان على بعض أساليب التغيير التي أثبتت محدودية فعاليتها وفي مقدمتها اللجوء إلى استخدام العنف الذي لا يثمر في الغالب أي نتيجة في ظل التفوق الأمني والعسكري للأنظمة التسلطية واحتكارها لوسائل الإكراه “المشروع”، كما أنه يعطي لتلك النظم غطاء شرعيا من أجل سحق الإنتفاضات الديمقراطية بمبرر استعادة الأمن والنظام ودرء الفوضى. وإلى جانب ذلك، ينصح المؤلف الحركات الديمقراطية بالإنكباب على التمكين لأسباب القوة الداخلية وعدم الإتكال على الدعم الخارجي لكون أن القوى الدولية المؤثرة تفضل التعاطي مع الأنظمة الديكتاتورية لخدمة مصالحها الخاصة، في حين أنه لا يطرأ تململ في موقفها إلا حين تأخذ أسس النظام الديكتاتوري الحليف في التضعضع وتنفضح ممارساته الشنيعة على نطاق واسع.
كما يشير المؤلف إلى قصور أسلوب المفاوضات عن تحصيل نتائج بناءة تفضي إلى حدوث تحول ديمقراطي ناجح، ذلك أن التفاوض لا يحتكم إلى معايير العدالة والإنصاف وإنما تحدد مخرجاته موازين القوى القائمة، بحيث قد يؤدي في هذه الحالة إلى انتزاع النظام الديكتاتوري لتنازلات مهمة من حركات المقاومة الديمقراطية بدون أن تتوفر في المقابل ضمانات فعلية لتقيد الحكام الديكتاتوريين بتعهداتهم. وعطفا على ذلك، قد يخلع التفاوض على النظام السلطوي الشرعية التي كانت تعوزه لكي يبني عليها لتكريس ممارساته الإستبدادية والتغطية عليها بإعلان إصلاحات صورية وترقيعية لا تقدم ولا تؤخر.
وبالمقابل، يقر مؤلف الكتاب بأن تطبيق أسلوب “النضال اللاعنيف” أو ما يسميه “بالتحدي السياسي” هو أنجع الأساليب وأفضلها لتحقيق التغيير المنشود، إذ يتركز هذا الأسلوب على شل مصادر القوة الضرورية لاستمرار الحكم الديكتاتوري والتي يمكن إجمالها في طاعة عامة الناس العاديين وانصياعهم لإملاءات ذلك النظام مدفوعين أساسا بعوامل شعورية وسيكولوجية تشرعن لتلك الطاعة باعتبارها واجبا أخلاقيا. كما لا يمكن للنظام الديكتاتوري العمل بدون دعم ومؤازرة الأشخاص والفئات التي تسنده والمتمثلة في أجهزة الجيش والمخابرات والأمن، فضلا عن الحزب السياسي والجهاز البيروقراطي للدولة. هذا دون إغفال مصادر قوة الديكتاتورية الإقتصادية التي تبرز من خلال سيطرتها على الموارد الطبيعية والممتلكات ووسائل المواصلات والإتصال…
وترتيبا على ذلك، يجب أن تنصرف جهود حركات النضال الديمقراطي إلى منع التعاون الشعبي والمؤسساتي مع النظام الديكتاتوري عبر السعي إلى تحويل ولاء أو على الأقل تحييد الأنوية الصلبة للديكتاتورية وبخاصة مؤسسة الجيش التي يعد موقفها حاسما في تحديد نتيجة النضال الديمقراطي، هذا إلى جانب ضرورة العمل من أجل شل القدرة الإقتصادية للنظام الديكتاتوري. وإلى جانب ذلك، لا بد من تعزيز قدرات مؤسسات المجتمع المدني المستقلة لإنضاج شروط نجاح النضال اللاعنيف، بالنظر لما تضطلع به من دور توعوي وتثقيفي (نشر فكرة المواطنة، إشاعة ثقافة حقوق الإنسان والقيم المدنية…)، إضافة إلى دورها الرقابي والسياسي من خلال فضح تجاوزات النظام التسلطي والدفاع عن دولة القانون والمؤسسات…
أما بخصوص الوسائل المستخدمة في تطبيق أسلوب الكفاح اللاعنيف فهي جد متنوعة، إذ يورد الكاتب في هذا الصدد تصنيفا لتلك الوسائل ضمن ثلاث فئات رئيسة، تشمل الفئة الأولى أسلوب “الإحتجاج والإقناع” والذي يتم تطبيقه عن طريق اعتماد جملة من الأشكال التعبيرية من قبيل المظاهرات والمسيرات الإحتجاجية، إلقاء الخطابات التعبوية وتوزيع المناشير… أما الفئة الثانية فتحيل على “اللاتعاون الإجتماعي والإقتصادي” بحيث تتعدد الوسائل المستعملة هنا والتي تمتد من العصيان المدني ورفض طاعة الأنظمة والقوانين السارية إلى شن حملات المقاطعة الإقتصادية والإضرابات العمالية… وصولا إلى أسلوب “التدخل اللاعنيف” والذي يشمل تشكيل حكومة موازية في أفق نزع الشرعية عن الحكومة الإستبدادية، والإحتلال السلمي للمباني الحكومية…
ومن جهة ثانية، يشدد الكاتب على دور وأهمية التخطيط الإستراتيجي في إنجاح حملات المقاومة الديمقراطية على خلاف الإنتفاضات العفوية والإرتجالية التي لا تؤتي في الغالب الثمار المرجوة منها، وهذا ما يتطلب من قادة الحركات الديمقراطية إعداد خطة عمل رئيسية تستحضر مجموعة من الجوانب من ضمنها تحديد الأهداف والأساليب المستخدمة في النضال بدقة متناهية، إلى جانب حسن توظيف وتوزيع الموارد البشرية والمادية والتنظيمية المتاحة، كما يتعين تحديد التوقيت والظروف الأكثر مناسبة لبدء وتصعيد النضال الديمقراطي، مع ضرورة الوعي بنقاط القوة والضعف لدى كل من النظام الإستبدادي والقوى الديمقراطية…
وفي هذا الإطار، يتعين على قوى النضال الديمقراطي التركيز على مكامن ضعف النظام الديكتاتوري بدلا من استهداف عوامل قوته. فبالرغم من أن نظم الحكم الديكتاتورية تبدو منيعة وحصينة في الظاهر، إلا أنها لا تخلو من نقاط ضعف قد تفضي إلى زعزعة وتقويض أسسها. فبخلاف الديمقراطيات التي تملك القابلية لتجديد موارد شرعيتها من خلال مجموعة من الآليات (انتظامية الدورة الإنتخابية بما يفضي إلى دوران النخب وتجديدها…)، غالبا ما تكون أسس حكم وشرعية النظام الديكتاتوري الأيديولوجية عرضة للتآكل والإهتراء، كما يؤدي عدم توفر البيئة المعلوماتية السليمة إلى إفراز قرارات وسياسات خاطئة غير قادرة على التكيف مع المتغيرات الحاصلة في المجتمع، هذا إلى جانب الإنشقاقات والخلافات الواقعة بين أعضاء النظام الديكتاتوري بحكم غياب آليات واضحة لتوزيع المناصب والتداول على الحكم.
إن الهدف من النضال الديمقراطي لا ينحصر فقط في الإطاحة بالنظام الديكتاتوري بل يشمل إرساء ديمقراطية راسخة وقوية، إذ يمكن أن يتولد عن سقوط النظام السابق نشوء ديكتاتورية أشد شراسة منه وهو ما تنبه إليه قديما “أرسطو” حين أكد بأن “النظام الديكتاتوري يمكن أن يتحول أيضا إلى نظام ديكتاتوري”. وتبعا لذلك قد لا تكون المرحلة التأسيسية التي تحيل إلى سقوط النظام الديكتاتوري مهمة بقدر أهمية مرحلة اتخاذ القرار التي تعني الإتفاق على قواعد جديدة لإدارة التدافع بين الفاعلين السياسيين من خلال وضع الأطر الدستورية والقانونية والمؤسساتية الكفيلة بإرساء ديمقراطية راسخة ومستدامة. ويشدد الكاتب هنا على ضرورة أن ينص الدستور على آليات واضحة للفصل بين السلطات والرقابة المتبادلة فيما بينها، كما يقترح إقامة نظام حكم فيدرالي يعطي صلاحيات مهمة للأقاليم والحكومات المحلية لمحاصرة النزعات الإستبدادية المركزية.