إقتصاددولي

هل تكسر الحرب التجارية هيمنة الدولار على العالم؟

نشر اولاً في مجلة اسواق العرب اللندنية

في إطار التخوّفات السائدة عن احتمال وقوع العالم في هوّة أزمة مالية جديدة تتشابه في ملابساتها مع تلك التي حدثت من قبل في العام 2008، يتعيّن علينا النظر إلى حال الإقتصاد الأميركي باعتباره المسؤول عن تسيير دفّة الإقتصاد العالمي… كما عن ازماته.

في إطار الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة وما نتج عنها من توترات على الصعيد العالمي، يُمكن التكهّن بأن يكون العالم على موعد مع أزمة مالية أكثر شدة وخطورة من سابقتها، حيث يتوقّع معظم الخبراء بأن تكون الحرب التجارية مُفجّراً للأزمة في أية لحظة، بل يراها البعض أيضاً بأنها جزءٌ لا ينفصل عن كيان الأزمة الوشيكة.

وقد أفادت تقارير تقنية متنوعة إلى أن المستثمرين في أميركا قد أقبلوا على شراء السندات المالية بدلاً من الإستثمار في أسواق الاسهم، باعتبارها نوع من الإستثمار الآمن، وهذا لم يحصل بشكل واسع منذ تفجّر الأزمة العالمية في العام 2008.

وتوقّع كثيرون من خبراء المال بأن تتجه معظم الشركات الأميركية الكبرى حالياً نحو خفض حجم النفقات والإستثمارات الخاصة بها في وسط عدم اليقين من التداعيات المترتبة على الحرب التجارية بين عملاقي الإقتصاد في العالم. كما يتخوّف المستثمرون بدورهم من أن يَعجَز الجانبان الصيني والأميركي عن الوصول إلى حلٍّ للأزمة قبل العام 2020، وهو العام المُرتَقَب والمُتوَقَّع لانفجار الأزمة الإقتصادية العالمية.

بالتالي فإنه يُمكن الجزم بأن الحرب التجارية، التي أشعلها الرئيس الاميركي، هي المسؤولة الأولى عن عدم إستقرار أسواق المال في العالم أجمع وليس في أميركا وحدها. ولعلّ ذلك يعكس حجم التأثير الذي تتمتع به الولايات المتحدة، والذي يُمكّنها من العبث بمُقدّرات الشعوب إقتصادياً.

الصين واقتصاد السلاسل

ونظراً إلى كون الإقتصاد الصيني هو الأكثر اندماجاً في الإقتصاد العالمي، فيُمكن القول بأن جميع إقتصادات دول العالم، بما فيها الإقتصاد الأميركي، باتت مرتبطة بشكل كلي أو جزئي به وذلك من خلال سلاسل الإنتاج والتوريد العالمية حيث صار إقتصاد الصين يربط العالم. بالتالي فإن محاولة أميركا حصار الصين إقتصادياً سيؤثر مباشرة في اقتصاد سلاسل التوريد، الأمر الذي قد يؤدي في النهاية إلى تضرر المصالح الإقتصادية في العالم بأسره، وضمناً في الولايات المتحدة نفسها. ولقد أضحت هذه المشكلة تنعكس سلباً على كل دول العالم، بما في ذلك المستثمرين من اميركا وأوروبا والشرق الأقصى الذين لديهم إستثمارات وخطط توسعية هائلة في الصين.

هناك توقعات رصينة ومقلقة تُفيد باحتمال أن يتهاوى الإقتصاد في كل دول العالم واحدة تلوَ الآخرى، حتى أن شبح الركود بات يلوح في أفق ألمانيا أيضاً رغم كونها من أقوى وأعتى الإقتصادات الأوروبية.

الجدير بالذكر هنا هو أن الإقتصاد الصيني قد يكون آخر من يتضرّر في حال تفجّر أزمة مالية عالمية، فرغم كون الإقتصاد الأميركي هو الأكبر حجماً في العالم من الناحية الإسمية، إلا أنه بالنظر إلى معايير الإنتاج الفعلي فإنه يُمكن وصف الصين باعتبارها الإقتصاد الأول في العالم، وذلك باستخدام معيار تعادل القوة الشرائية.

ويُجمع الخبراء على أن كافة الشواهد تؤكد على تضرر المصالح الإقتصادية في أميركا في ظل تسارع وتيرة الحرب التجارية، فبالحديث مثلاً عن القطاع الزراعي في الولايات المتحدة والذي يشكل نحو 22% من القوة العاملة، فإن قرارات الإدارة الاميركية التعسّفية ضد الصين قد وجّهت ضربة مباشرة إلى المزارع الأميركية، حيث أن أبواب الأسواق الصينية باتت موصدة في وجه الإنتاج الزراعي الأميركي، مما أجبر أصحاب المزارع على خفض الإنتاج مما يؤثر بدوره في الناتج القومي الأميركي، وبالتالي قد يكون الضرر الناجم عن انهيار القطاع الزراعي في أميركا أكثر شدّة من انهيار عدد من البنوك الأميركية دفعة واحدة في حال تفجر أزمة مالية عالمية.

هل تُسهم نهاية الحرب التجارية في تغيير ملامح العالم؟

العالم اليوم أمام ثلاثة خيارات، أولها أن يسيطر الدولار على الإقتصاد العالمي بشكل كامل، ولعلّ هذا هو مشروع الإحتياطي الفيديرالي (البنك المركزي ألاميركي) والهدف الأكبر لإدارة الجمهوريين في الولايات المتحدة. وثانيهما الذهاب إلى نظام مرتبط بحقوق السحب الخاصة (وهو نظام التسعير الخاص بصندوق النقد الدولي وعملته) كعملة بديلة من الدولار في الإقتصاد العالمي، وهو الأمر الذي قد يُخفّض من سيطرة أميركا على السيولة العالمية لأنها سوف تصبح سيولة تشاركية. أما الخيار الثالث والأخير هو النظام المزدوج، حيث سيصبح العالم أمام نظام إقتصادي قائم على الدولار من جهة، ونظام آخر مقابل قائم على توليفة من عدد من العملات العالمية كاليوان الصيني والروبل الروسي والروبية الهندية وغيرها خاصة في ظل الآفاق التي توفّرها تقنية “بلوك تشين”.

يبدو الإحتمال الأخير غير واضح بصورة محددة، إلّا أنه ُيمكن القول بأن النظام القائم على الدولار يتعرّض حالياً لمخاطر كثيرة كنتيجة للحرب التجارية، وهناك احتمال قوي لكسر ذلك النظام، وربما قد تكون الأزمة الوشيكة هي الشرارة الأولى لحدوث ذلك.

د. بيار بولس الخوري ناشر الموقع

الدكتور بيار بولس الخوري أكاديمي وباحث ومتحدث بارز يتمتع بامكانات واسعة في مجالات الاقتصاد والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على سياسات الاقتصاد الكلي وإدارة التعليم العالي. يشغل حاليًا منصب عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا وأمين سر الجمعية الاقتصادية اللبنانية. عمل خبيرًا اقتصاديًا في عدد من البنوك المركزية العربية. تخصص في صناعة السياسات الاقتصادية والمالية في معهد صندوق النقد الدولي بواشنطن العاصمة، في برامج لصانعي السياسات في الدول الاعضاء. يشغل ايضا" مركز أستاذ زائر في تكنولوجيا البلوك تشين بجامعة داياناندا ساغار في الهند ومستشار أكاديمي في الأكاديمية البحرية الدولية. ألّف أربعة كتب نُشرت في الولايات المتحدة وألمانيا ولبنان، تناولت تحولات اقتصاد التعليم العالي وتحديات إدارته، منها كتاب "التعليم الإلكتروني في العالم العربي" و"التعليم الجامعي بموذج الشركنة". نشر أكثر من 40 بحثًا علميًا في دوريات محكمة دوليًا،. يُعد مرجعًا في قضايا مبادرة الحزام والطريق والشؤون الآسيوية، مع تركيز على تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. أسس موقع الملف الاستراتيجي المهتم بالتحليل الاقتصادي والسياسي وموقع بيروت يا بيروت المخصص للأدب والثقافة. أطلق بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة "بوديو"، ليناقش قضايا اجتماعية واقتصادية بطريقة مبسطة. شارك في تأليف سلسلتين بارزتين: "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط"، الذي يحلل التنافسات الجيوسياسية حول موارد البحر المتوسط، و"17 تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان"، وهي مجموعة دراسات ومقالات عميقة حول انتفاضة لبنان عام 2019، والمتوفرتان على منصة أمازون كيندل. لديه مئات المقابلات في وسائل إعلام محلية عربية وعالمية مقروءة ومتلفزة، حيث يناقش قضايا الاقتصاد اللبناني والأزمات الإقليمية والشؤون الدولية. يكتب مقالات رأي في منصات إلكترونية رائدة مثل اسواق العرب اللندنية كما في صحف النهار والجمهورية ونداء الوطن في لبنان. يُعتبر الخوري صوتًا مؤثرًا في النقاشات حول مسيرة اصلاح السياسات الكلية وسياسات محاربة الفساد والجريمة المنظمة في لبنان كما مسيرة النهوض بالتعليم والتعليم العالي وربطه باحتياجات سوق العمل. لديه خبرة واسعة في دمج تطبيقات تكنولوجيا البلوكتشين في عالم الاعمال ومن اوائل المدافعين عن الصلاحية الاخلاقية والاقتصادية لمفهوم العملات المشفرة ومستقبلها، حيث قدم سلسلة من ورش العمل والتدريبات في هذا المجال، بما في ذلك تدريب لوزارة الخارجية النيجيرية حول استخدام البلوك تشين في المساعدات الإنسانية وتدريب الشركات الرائدة في بانغالور عبر جامعة ساغار. كما يمتلك أكثر من 30 عامًا من الخبرة في التدريب وإدارة البرامج التدريبية لشركات ومؤسسات مرموقة مثل شركة نفط الكويت والمنظمة العربية لانتاج وتصدير النفط OAPEC. يجمع الخوري بين العمق الأكاديمي، فهم البنى الاجتماعية-الاقتصادية والاستشراف العملي، مما يجعله خبيرا" اقتصاديا" موثوقا" في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى