من عَشِّ “الوقواق” إلى “كيت كات”: رَحلةُ جنونٍ لبناني | كتب البروفسور بيار الخوري
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
مَن منًا ما زال يَذكُرُ الفيلم الكوميدي-الدرامي السيكولوجي الأميركي “طيران فوقَ عَشِّ الوقواق” (One Flew Over the Cuckoo’s Nest) للمخرج ميلوس فورمان (١٩٧٥) والمأخوذ عن رواية كين كايسي (١٩٥٩)، والذي تدور أحداثه حول المؤسسات وترويضها للشعب، وتَمَرُّدِ أحدهم وانهياره في آخر المطاف؟
ليس تفصيلاً في ذلك الفيلم السينمائي الطويل، الذي يقوم ببطولته جاك نيكلسون، أن ذلك المكان الذي يُرَوَّضُ فيه المجانين هو جُزءٌ من طبيعةٍ خلّابةٍ ساحرةٍ تدور الكاميرا حولها لتُبهِر المُشاهِد قبل أن تُدخِلَه إلى ذلك المكان النَتِن الذي يُدَجَّن فيه المعتوهون. حالةٌ يُمكن إعادة إسقاطها على لبنان الذي يحسده العرب على جمال طبيعته وسحرها، وفيه هذا النظام النتن وهذه الطبقة السياسية الفاسدة. تنظرُ إلى لبنان من فوق (كما جالت كاميرا الفيلم) فيُدهِشُكَ كلُّ شيءٍ ويُبهِرُك، وتنزل إلى أرضه فتصبحُ في مكانٍ يُشبه مسرح أحداث عَشِّ الوقواق.
مُقاربةٌ لبنانية للبُعدِ الفلسفي عينه أبدعَ فيها زياد الرحباني في مسرحية فيلم أميركي طويل (١٩٨٠) التي تدور أحداثها في مستشفى الأمراض العقلية حيث يُحاول الأطباء وجهاز التمريض إقناع المرضى الذين حطّمتهم الحرب بأن “كل شيءٍ تمام”.
شخصياتُ الرحباني المُولَجة بالعلاج أكثر لطفاً من شخصيات فورمان … وأكثر لبنانية. هي تُشبه سلطة الطوائف التي تبدو أكثر شبهاً بالمرضى، ولكن أقلّ ذكاءً وعاجزة عن الإجابة عن أسئلتهم، بل جاهزة للتصادم أمام المرضى وإعادتهم دائماً إلى نقطة الصفر في جنونهم. مجانين الرحباني أيضاً أكثر عقلانية من الأطباء والممرضين والممرضات المُشرِفين على علاجهم.
رُغم تناغمِ فكرة العَمَلَين حول تنميط البشر وتحويلهم الى مجانين إن لم يخضعوا، حيث جنونهم يُشبه كلّ واحدٍ منّا ولكن ليس خضوعهم بالضرورة، فإن فيلم الوقواق يتفوَّق على “فيلم” الرحباني بوجود شخصٍ ثائر (ماك مورفي-جاك نيكلسون) يفهم الإطار الذي يوضع فيه الناس هناك، ويُحاول أن يُفهِّمَ المُحتَجَزين هناك بحقيقة ما يجري. لكن ما لم يكن في حسابه هو عدم رغبة المُحتَجَزين بالخروج إلى الحرية، وتلك أيضاً عقدةٌ لبنانية بامتياز. مع كلّ انكسارٍ للتظاهرات في لبنان يتحوّل اللبنانيون إلى شتمِ بعضهم البعض والتنمّر على “هَبَل” وسذاجة الآخرين، وهم بذلك يحاولون إعفاء الذات من تهمة التدجّن، ويُعبّرون بالتالي عن تلك الروح الثورية التلقائية التي لا تقبل الإعتراف بمَهانة حجم التدجين الذي لحق بالآخرين وبهم.
التعابير نفسها المُستخدَمة عندنا يستخدمها ماك مورفي: “ أيها الحمقى المعاتيه!”، “يا لكم من سخفاء!”، “ماذا بكم بحق الجحيم؟ أتقبعون هنا برغبتكم؟”، “أتتذمرون من الأوضاع وكيف هي مُتسَلِّطة عليكم؟”، “أتحنقون من سيطرتها بأقل التفاهات ومعاونة زبانيتها على قمعكم؟”، “أتقبلون بمصحٍّ عقلي بدلاً من تلك الحياة؟”، “ماذا بكم لعنكم الله؟”، “جنونكم يا حفنة أوغاد في تفضيل هذا المستنقع عن الخارج الناضح بالحرية والحياة”، “لعنكم الله على ما تفعلون”.
خطابٌ لبنانيٌّ بامتياز حيث نلعن كل يوم بعضنا بعضاً وكُلُّنا في المستنقع نفسه.
يطلق رشيد (زياد الرحباني) العنان للجنون الأقصى في نهاية المسرحية رافضاً كل الأفكار التي حاول المُعالجون والمُعالجات تدجينه بها. يسألُ أسئلة كبيرة جداً ولكن مُطلقها… مجنون!
بالمعنى ذاته ينهار بطل الوقواق في نهاية المطاف ويستمر التدجين.
وما دُمنا في الفن المُبدع أُحيلُكُم أخيراً إلى رائعة داوود عبد السيد (١٩٩١) في الفيلم المصري ” كيت كات” (من وحي رواية المالك الحزين) وحكاية الشيخ حسني الأعمى (محمود عبد العزيز)، الذي يقود أعمى آخر في رحلة على متن قاربٍ في البحر. الشيخ حسني يُحرّك “الفلوكة” ويهزّها بتحريكِ جسده والمركب في مكانه، حيث يشرح عن جمال البحر فيما الاعمى الثاني يفرح بإحساسه بأنه يُحقّقُ حلمَ حياته بالذهاب برحلة على متن قارب في البحر. حصل ذلك بعد أن أخَذَ الشيخ صديقه لحضور السينما وقام هناك بوصف المشاهد في الفيلم لصديقه!
من الوقواق إلى فيلم أميركي طويل إلى كيت كات خيطٌ تشاؤمي فلسفي كبير، أثبت حتى الآن أنه خيطٌ متينٌ جداً فهل مَن يقطعه؟