الاحدثالملف العربي الصيني

خمسون لبنان والصين (الجزء الخامس) : التفاعل الثقافي بين حماسة الصينيين وظروف لبنان الصعبة | كتب أحمد بزّون

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

لا يمكن أن نتناول موضوع العلاقات الثقافية بين الصين ولبنان كأن الأمر عادي ومبسط وسهل، فأكتفي بسرد بعض اللقاءات أو الاتفاقات الرسمية، وإن كان في ذلك توكيد على الوقائع. فمثل هذه العلاقات دونها إشكالات وأسئلة لا بد منها، قد نتطرق لبعضها ونهمل البعض الآخر، ومهما يكن فالعلاقات باتت واقعًا حاضرًا بقوة، وينمو يومًا بعد يوم. ومع ذلك يحضرني سؤالان يتبادران سريعًا إلى الذهن، وببراءة تامة:

أولًا، هل تقوم علاقات ثقافية متوازنة بين دولة كبرى مثل الصين ودولة صغيرة مثل لبنان؟
الوقائع تدل على أن مثل هذه العلاقات قامت وإن تأخرت،لكنها جنحت في اتجاه المزيد من المبادرات الصينية والقليل من المبادرات اللبنانية، وسوف نفصل ذلك.

ثانيًا، هل يمكن لدولة رأسمالية مثل لبنان أن تقيم علاقات ثقافية مع دولة شيوعية مثل الصين؟
ربماانفتاح النظام الصيني على كل دول العالم الذي بدأ عام 1978 يكسر حدة التناقض،ويحطم كل الحدود الإيديولوجية، ثم لا بدللبنان من أن يخطو خطواته شرقًا ولو ببطء.
هذان السؤالان وسواهما الكثير من الأسئلة تدافعت في مخيلتي فبل اليوم، فذلك كان أثناء زيارتين اثنتين للصين، الأولى في عداد وفد لاتحاد الكتاب اللبنانيين برئاسة الشاعر الراحل جوزيف حرب عام 2001، والثانية في عداد وفد لوزارة الثقافة برئاسة مديرها العام السابق عمر حلبلب عام 2007. وقد جمعت بعض المعلومات والأفكار من خلال اللقاءات الكثيرة التي شهدتها بنفسي حينها، وبعد متابعات لاحقة، ما أمكن، لشؤون الثقافة وأنشطتها في في لبنان، وفي ذلك البلد العظيم، الصين.

الثقافة روح العلاقة
منذ تطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح، والصين في نموسريع وتصاعد مستمر على كل المستويات، حتى أصبح اقتصادها يحتل حاليًا المركز الثاني عالميا بعد اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية. وأتت مبادرة “الحزام والطريق” التي أطلقها الرئيس شي جين بينغ في عام 2013 لتدفع بالصين قدما، وتعزز من مكانتها الاقتصادية والعالمية. ولم تسعَ هذه المبادرة إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري فقط بين الصين والدول الواقعة في طول طريق الحرير، بل تهدف أيضا إلى تقارب القلوب بين الشعوب. وهذا يتوقف على تمتين العلاقات بين الصين ودول طريق الحرير، وتطويرها في اتجاه بناء صداقات مع تلك الدول، ومن بينها لبنان. وعملية تطوير هذه العلاقات، وبث الروح فيهايحتاجان، في المقام الأول، إلى زيادة التبادل الثقافي، نظرًا إلى ما للثقافة من أهمية في تقريب النفوس وتوطيد العلاقات، حتى وإن تحولت الثقافة إلى سلع تباع وتشترى.

ما يهمنا الإشارة إليه في البداية، أن الرغبة في إقامة علاقات متبادلة لا يمكن أن تكون من طرف واحد، فالصين العظمى في حاجة إلى تسويق سلعها الثقافية على أنواعها في مدن العالم وشوارعه وحتى أزقته، في حين أن لبنان يستفيد الكثير من خبرة الثقافة الصينية العريقة، أو، على الأقل، يستفيد من تجربة دولة نامية، في الثقافة، لا أي دولة، ونحن نعلم أن الصين باتت تملك اليوم ما لا يقل عن ثلاثة آلاف متحف (يقال: كل يومين تظهر ثلاثة متاحف جديدة في الصين)، وأكبر مكتبة وطنية عامة (في بكين) في قارتنا آسيا، وخامس مكتبة في العالم، تضم 37 مليون عنصر، بينها أكثر من 270.000 كتاب صيني قديم ونادر، بالإضافة إلى أكثر من ثلاثة آلاف مكتبة عامة منتشرة في كل المقاطعات الصينية. وفي عام 2019 أنتجت الصين 850 فيلمًا روائيًا، وربما يكفي أن نقول إن حجم الصناعات الثقافية تؤكدها مساهمتها عام 2018 بمبلغ 4,1 تريليونات يوان صيني (الدولار الأميركي يساوي 7 يوانات في ذلك العام)، أي ما نسبته 4,48% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو في تصاعد مستمر. وحتى لبنان بات اليوم لديه سلع ثقافية يجول بها على العالم، ثم يمكن أن يتبادل مع الصين بعضًا منها.

لا تجوز المقارنة بين البلدين بالأرقام ما دمنا نتحدث عن بلد ينمو بسرعة صاروخية، وآخر يتراجع بانهيار اقتصادي سريع، أو بين بلد يساوي قارة، بمساحته التي لا تقل كثيرًا عن مساحة أوروبا، وسكانه الذي يبلغ عددهم خمس العالم تقريبًا، وآخر أرقامه متواضعة. إنما المقارنة النسبية يمكن أن تأخذ بعين الاعتبار مثلًا التاريخ الحضاري، فالبَلَدان لهما تاريخ حضاري مجيد، إذ يمكن أن نلمح خطفًا إلى أن الصين في إحدى مراحلها التاريخية (أي بين 1046 ق. م. و771 ق. م.)، شهدت وجود سبعين نوعًا من الآلات الموسيقية، وحضارتها تعود إلى أكثر من 6000 سنة، هو عمر شنغهاي مثلًا وعددًا من موجودات المتاحف،في حين يكتنز لبنان ما قدمته الحضارة الفينيقية، وما تركته الحضارات الأخرى مثل اليونانية والرومانية من بصمات في تاريخه المضيء. ويمكن أن نتحدث عن العصر الذهبي للثقافة اللبنانية، عندما كان لبنان يعتبر سويسرا الشرق، وبيروت عاصمة الثقافة العربية، علنا نستعيد هذا المجد يومًا ما، ونضيف إليه ما هو أجمل.

جبران وبينغ شين
المهم أن نستذكر تاريخ العلاقات قبل أن نبحر في طبيعة العلاقات الثقافية اليوم، فلبنان من دول طريق الحرير الذي يصل الصينبمدينة صور القديمة من البر والبحر، صور التي تذكر الروايات أنها تأسست عام ٢٧٥٠ ق.م. ولن نغوص في الحراك القديم بين المنطقة العربية والصين، ولا بجولات ابن بطوطة وسواه من الرحالة، ولا ما وفّره تجار طريق الحرير من احتكاك وتفاعل حضاريين. لنقفز إلى النقاط المضيئة في علاقات القرن الماضي، وصولًا إلى علامات العصر الحاضر.

وهكذا يمكن أن نستشعر العلاقات الثقافية بين البلدين، من التاريخ الذي تُرجم فيه كتابا جبران خليل جبران “المجنون” و”النبي” (عن الإنكليزية)، فالأول ترجم العام 1929، والثاني العام 1931 بقلم الأديبة الصينية الراحلة بينغ شين التي كانت تعرف جبران، وتعيش في الشارع نفسه، من الحي الصيني في نيويورك، وقد زرنا (وفد اتحاد الكتاب اللبنانيين)متحفها الكائن في جنوب الصين وشاهدنا صورة للرئيس اللبناني الراحل الياس الهراوي، وهو يقلدها، في المستشفى، قبل وفاتها، عام 1999، وسامًا رفيعًا.

لم تكن ترجمة جبران خليل جبران مسألة عابرة لحضور أديب لبناني في الثقافة الصينية، مع أننا لم نكن نعلم أن جبران معروف في بلاد الصين الواسعة الى هذا الحد، إلا عندما سمعنا بآذاننا ورأينا بعيوننا كيف أن كتاباته، خصوصًا “النبي”، كان لها تأثيرها في أجيال أدباء الصين، فاحتمال أن يكون جبران مترجَمًا في الصين أمر وارد بالطبع، فهو المترجم إلى لغات العالم، لكن أن يصل عدد من الكتّاب الصينيين، الذين التقيناهم، في بكين وشانغهاي وفوتشيو، إلى درجة أن يعتبروا جبران أبا للأدب الصيني، فإن ذلك فاجأنا بالفعل، وجعلنا نظن، بكل بساطة، أن الأمر ضرب من الدبلوماسية الناعمة في مثل تلك اللقاءات، ذات الطابع الرسمي، لكن تكرار اسم جبران في كل اللقاءات التي عقدناها، مع ممثلين عن اتحادات الكتاب الصينيين في أكثر من فرع وجهة، أقنعنا أن ذكر جبران يتخطى مسألة الاستحضار المؤقت لتلبية لقاء صيني لبناني رسمي، بل يصب، بالفعل، في درجة اعتبار الكتّاب الصينيين لجبران الذي ترجمت كتبه كلها إلى الصينية في مراحل مختلفة، لما تمثله أفكاره التحررية التي لاقت صداها العميق في الشارع الصيني، قبل أن تنتشر أفكار ماوتسي تونغ، وتتحول الى سلطة ثقافية جديدة. ولم يكن غريبًا أن يُذكر جبران وبينغ تشين كمادة للكلام ومثال على تلاقي الثقافتين، بين ممثلي الاتحادات الصينية والاتحاد اللبناني، لا سيما ما أضافه جوزف حرب من إضاءات مهمة على عبقري لبنان، كلما انعقد اللقاء والحديث عن عمق العلاقات الثقافية الصينية اللبنانية، ثم يستتبع ذلك بالمزيد من إقرار أهمية تنشيط عجلة الترجمة بين اللغتين الصينية والعربية.

“الخيانة” المضاعفة
وإذا كانت البدايات غير الرسمية للعلاقات الثقافية تمثلت بتعرف الصينيين على عدد من الأدباء اللبنانيين، أمثال جبران وميخائيل نعيمة ومي زيادة وسواهم، وحديثًا على أدونيس أكثر الأدباء العرب المعاصرين ترجمة في الصين (يحمل جنسية لبنانية إلى جانب السورية، وتأسست ثقافته في أحضان الثقافة اللبنانية، قبل انتقاله إلى العالمية). فإن اللبنانيين والعرب ربما تأخروا في التعرف على الأدب الصيني، إلى زمن الانفتاح العام للصين على العالم، ومنه الانفتاح الثقافي. فنجيب محفوظ لم يقرأ من الثقافة الصينية سوى حوارات كونفوشيوس ورواية “الجمل شيانغ تسي” للاو شه، أما طه حسين فلم يكن يعرف شيئًا عن الأدب الصيني. فالترجمة بين العربية والصينية كانت في زمن مضى شبه معدومة، ونحن لم نعرف فيما مضى إلا كونفوشيوس ولو شيون الذي ترجم له المصريون بعض الكتب، ولاو شه. وفي مراحل أخرى بدأنا نتعرف على الثقافة الصينية من خلال الترجمات عن الفرنسية أو الإنكليزية،فإذا كانت الترجمة خيانة، فالخيانة هنا مضاعفة.

مع الانفتاح وتنشيط العلاقات بين الصين والعرب بدأت الترجمة تتخذ طريقها نحو أعمال مخطط لها، وتنفذ ضمن مشاريع سبقتنا إليها الصين بالطبع، وإذا كان المجلس الأعلى للثقافة في مصر سبق إلى ذلك فإن مشاريع الترجمة التي أقرتها مؤسسة محمد بن راشد و”دار كلمة” في أبوظبي أنتجت العديد من الترجمات،لكن مهما كان حجمها لا توازي بالطبع ما ترجمه الصينيون عن العربية، فهم أدخلوا العربية إلى جامعات مختصة وخرّجوا جيشًا من المترجمين، بينهم من اتجه إلى الترجمات الثقافية، وقد عمدوا إلى ترجمة أمهات الكتب العربية والعديد من الكتب الحديثة، فقد قال لي المترجم الصيني الشهير تشونغ جي كون (اسمه العربي “صاعد”)، رئيس الجمعية الصينية للأدب العربي، الذي التقيته في حوار منشور في جريدة “السفير” عام 2001، في بكين، إنه ترجم ما لا يقل عن 200 كتاب، من عيون الأدب العربي.

من الطبيعي أن يهتم الصينيون بترجمة آداب العالم إلى لغتهم كلما انفتحوا على العالم أكثر عبر تاريخهم، وأن تكون الكتب العربية المترجمة إلى الصينية أضعاف أضعاف الكتب المترجمة عكسًا، كون اهتمامنا بالثقافة الصينية تأخر كثيرًا. فمنذ العام1956قاد أستاذ صيني وفدًا يضم سبعة طلاب إلى القاهرة، لتدريس اللغة الصينية في معهد اللغات وتعلم اللغة العربية وآدابها، في جامعتها، فكانت مصر أول دولة عربية تقيم علاقات دبلوماسية مع الصين وعلاقات ثقافية.

إذا كانت سهلةً ترجمةُ الأدب الصيني إلى العربية من قبل مترجمين عرب، وهم نادرون اليوم، فما يحتاج إلى وقت أطول إيجاد مترجمين عرب محترفين يترجمون أدبنا وثقافتنا إلى الصينية، فيتحكمون بالتالي باختيار المادة المترجمة. إذ إن الصينيين، المعروفين برهاب الأرقام، يعترفون بأن المترجمين المحترفين لديهم من الصينية إلى الإنكليزية، مثلًا، لا يتعدون مئة وخمسين مترجمًا. وعلى مستوى لبنان لا أعرف مترجمًا لبنانيًا احترف الترجمة إلى الصينية.

عصر الانفتاح
إذا كان هذا هو حظنا في الترجمة التي تشهد صعوبة، وتحتاج مشاريعها إلى تخطيط ودعم حكوميين، لا مبادرات فردية، فماذا عن العلاقات الثقافية الأخرى التي بدأت تلمع بيارقها بعد انطلاق عملية الانفتاح؟
صحيح أن العلاقات الصينية العربية الحديثة بدأت في مصر عبد الناصر عام 1956، وبدها بلاد عربية أخرى، إلا أن العلاقات الرسمية بين لبنان والصين تأخرت حتى العام 1971، لتتطور بعد ذلك بصورة سليمة، وصولًا إلى توقيع اتفاقية ثقافية العام 1992، وُقِّع برنامجها التنفيذي العام 2002، وكانت زيارة مدير عام وزارة الثقافة عمر حلبلب على رأس وفد كنت بين أفراده، عام 2007،تهدف إلى تجديدالبرنامج التنفيذي، وكانت خطوطه العريضة:تطوير التعاون الثقافي، تبادل الزيارات بين المسؤولين عن القطاعات الثقافية، وبين الكتّاب والفنانين، تبادل المطبوعات والفرق الفنية والمعارض، وإن كانالاتفاق الأساسي تضمن بنودًا تربوية ورياضية، تخص وزارتي التربية والشباب والرياضة. وتأكد خلال تلك الزيارة طموح الطرفين إلى إقامة علاقات ثقافية متينة،وتزخيم التبادل الثقافي. ولا يعني ذلك أن الأنشطة الثقافية التبادلية لم تكن قد بدأت بعد، فقد شارك لبنان في بكين العام 2001 بمجموعة من الأنشطة، لمناسبة مرور ثلاثين عامًا عل بدء العلاقات بين البلدين.

واستمرت العلاقات بشيء من البرود، يتحمل مسؤوليته الجانب اللبناني أكثر لأسباب عدة لا مجال لذكرها هنا.

وبالعودة سنوات إلى الوراء، فقد قام، في العام 2000، وفد اتحاد الكتاب الصينيين بزيارة أولى إلى لبنان، شكلت فاتحة العلاقات بينه وبين اتحاد الكتاب اللبنانيين الذي ردها الأخير، في العام التالي، ثم كانت زيارة ثانية،عام 2005، للاتحاد الصيني، بوفد يمثل المقاطعات الصينية بجهاتها الأربع، يرأسه الأديب والمنظر الأدبي الشهير هي شاوشوان، يرافقه الروائي صن شون بينغ نائب رئيس اتحاد الكتاب في مقاطعة لياونينغ في الشمال، المحقق الأدبي فنغ شوي رئيس اتحاد الكتاب في مقاطعة إيغوريا، الكاتب والمترجم من اللغة اليابانية تشين شين رو، نائب مدير العلاقات العامة لاتحاد الكتاب الصينيين، يرافقهم المترجم إلى العربية وانغ قوي فا الذي ترجم العديد من سير سياسيين عرب وكتبًا أدبية عربية. وقد أورت أسماء الوفد لأبرز اهتمام الصينيين بتأسيس علاقات مع أدباء وكتاب لبنان، كانت هذه الزيارة بهدف توقيع بروتوكول تعاون من الطرفين،وهذا ما حصل، إلا أن الاتحاد اللبناني شهد منذ تلك الفترة انهياراته المتلاحقة بسبب التجاذبات السياسية، ولمّا تزل مستمرة.

مشاريع الترجمة
في عام 2006، افتتح معهد كونفوشيوس لتدريس اللغة الصينية وتقديم نماذج من الثقافة الصينية، في جامعة القديس يوسف ببيروت، بدعم من سفارة الصين في لبنان، وبمشاركة جامعة صينية. وفي عام 2013، عقدت الجامعة اللبنانية اتفاقيات مع جامعات صينية، ما عزز تبادل الأساتذة بين الطرفين وزاد عدد البعثات الطلابية في لبنان والصين. ويستقبل المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الاجتماعية بالجامعة اللبنانية سنويًا عددًا من طلبة الماستر والدكتوراه من جامعات صينية. إلا أن اتفاقيات الترجمة بين لبنان والصينتأخرت إلى العام 2016، تاريخ عَقد الملتقى الصيني- اللبناني الأوّل للترجمة بين العربية والصينية، الذي أقامتهالرابطة اللبنانية – الصينية للصداقة التي يرأسها الدكتور مسعود ضاهر، بالتعاون مع المنظّمة العربية للترجمة واتحاد المترجمين العرب، أقيم في بكين وشانغهاي، ركز على التعاون الثقافي والدور الذي يمكن أن تلعبه دور النشر، والمشكلات التي تواجهها عمليات الترجمة، وتشجيع جيل جديد من المترجمين في اللغتين، والعمل على تمتين العلاقات بين الجامعات الصينية والجامعة اللبنانية، حيث أنشئ في الجامعة اللبنانية قسم خاص للغة الصينية وآدابها. وتم الاتفاق على دعم أعمال الترجمة من قبل الجهات الحكومية في البلدين، وهذا إن أنجز بعضه في الصين فقد استحال تنفيذه في لبنان، بسبب تلكؤ المسؤولين الرسميين والانهيار الاقتصادي الذي عطل الكثير من المشاريع التنموية.

من جهة أخرى، أنشئ في الجامعة اللبنانيةمركز اللغات والترجمة، وهو يمنح إجازة في اللغة الصينية ابتداءً من العام الجامعي 2015 – 2016 بدعم من السفارة الصينية في لبنان، على أساس أن الاهتمام باللغة الصينية وبالثقافة الصينية ضرورة ملحة، ليس في عالم الثقافة وحسب، إنما في عالم الاقتصاد أيضًا.

وقامت دار ” المستقبل الرقمي” للنشر والتوزيع في لبنان، بنشر أكثر من 300كتاب صيني مترجم إلى العربية.وشاركت الدار العربية للعلوم- ناشرون، وهي دار لبنانية، في معرض بكين الدولي للكتاب في عام 2018، بأكثر من 150 كتابًا صينيًا مترجمًا إلى العربية.

وبعد انضمام لبنان إلى مبادرة “الحزام والطريق” في عام 2017، وقّع البلدان عام 2018 بروتوكولا للتعاون الثقافي، مثل طرفه اللبناني وزير الثقافة السابق غطاس خوري، وفي عام 2020 وقع وزير الثقافة عباس مرتضى في مكتبه في الوزارة، مع السفير الصيني الأسبق وانغ كيجيان، في حضور المدير العام للشؤون الثقافية الدكتور علي الصمد، اتفاقية تعاون لإيجاد مراكز ثقافية في كلا البلدين، وهو من شأنه تفعيل التبادل والتفاعل الثقافيين أكثر، وهذا ما تبادلته الصين مع عدد من الدول العربية.

إضاءات
شهد لبنان عددًا من الأنشطة الثقافية الصينية فقد حط “السيرك الأمبراطوري الصيني” رحاله في معبد جوبيتر، ضمن اطار مهرجانات بعلبك الدولية، وحطت فرقة أكروبات واستعراض صينية في كازينو لبنان، وثالثة في إطار مهرجانات صور الدولية.
في المقابل كانت لفرقة كركلا اللبنانية إطلالة مهمة في الصين، إذ كانت أولى حفلاتها عام 2005، بعدها استمر التواصل، وجالت الفرقة على بكين وشانغهاي وهانغتشووقوانغتشو، وكانت آخر جولاتها عامي 2016 و2018، وقد لاقت استحسان الجمهور الصيني. كذلك أحيت فرقة فهد العبدالله وفرقة مجد البعلبكية حفلات في الصين، ولاقت استجابة لافتة.

وفي عام 2018 وُقِّع اتفاق تعاون بين محطة تلفزيون الصين المركزي (CCTV) وتلفزيون لبنان، لعرض الأفلام الصينية على الشاشات اللبنانية. وتقوم شركات عدة في لبنان بدبلجة الأفلام الصينية الى اللغة العربية (أفلام كارتون ومسلسلات وأفلام تاريخية)، مقابل برنامج دبلجة أفلام لبنانية إلى اللغة الصينية،بدأبدبلجة فيلم “كفرناحوم”، للمخرجة نادين لبكي،الذي توزع على صالات صينية عدة،وشهد إقبالًامهمًا، حتى فاقت إيراداته ما قيمته 54 مليون دولار أمريكي.

أما أكثر مؤسسة استفادت من العلاقات الثقافية اللبنانية الصينية حتى الآن في لبنان، فهي المعهد الوطني العالي للموسيقى (الكونسرفاتوار)، من خلال التزام الصين بتشييد مبنى جديد للكونسرفاتوار، فيه قاعتان لحفلات الأوركسترا الفيلهارمونية والأوركسترا الشرق عربيَّة، بالإضافة إلى قاعات للتدريس، تبعًا لأفضل المعايير الدولية الحديثة، وبكلفة 40 مليون دولار أمريكي. وتشكل هذه الهدية الصينية للبنان تتويجًا لمسيرة خمسين عامًا من العلاقات بين الصين ولبنان، وأهم حدث ثقافي بينهما.

أفكار سريعة عن مشاريع مقترحة
وبصفتي مدير القسم الثقافي في الجمعية العربية الصينية للتعاون والتنمية ACCDA، شاركت القسم والهيئة الإدارية للجمعية نقاشات حول الأنشطة الممكنة حاليًا، كبداية لتفاعل ثقافي يتنامى ويتطور يومًا بعد يوم، بيننا وبين الجهات الثقافية في الصين، وخلصنا إلى اقتراحات وأفكار سريعة، نعمل مع الجهات المختصة لتنفيذها، وهي كالتالي:
1-مشاركة الصين في في معرض بيروت الدولي للكتاب، مع الأنشطة التالية:
– تخصيص جناح واسع للكتب الصينية المترجمة للعربية والفرنسية والإنكليزية، يكون للجمعية حضور فيه، ويوجد بنر يشير إلى ذلك، ويتواجد فيه مندوب دائم لإدارة اتفاقات الترجمة مع دور النشر اللبنانية والعربية.
– على هامش المعرض تدار عروض لبيع حقوق الترجمة، بالتنسيق مع الجمعية طبعًا.
– يعقد مؤتمر عن العلاقات الصينية العربية، يتضمن الجوانب الاقتصادية والسياحية والثقافية، يستمر يومين ويتضمن:
– ندوات ولقاءات مع كتاب لهم كتب مترجمة.
– استعراضات فولكلورية صينية.
– فيلم عن التكنولوجيا الحديثة في الصين.
– إدارة صفقات من شأنها دفع عجلة التنمية على أنواعها في لبنان.

2- إقامة حفلات استعراض صينية في المدن اللبنانية، مع الإعلان عنها في التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي.

3-أنشطة متنوعة تحت عنوان “عش حياة القرية الصينية”، تقام في منطقة مفتوحة في البيال صيفًا، تتضمن عروض أساليب الحياة والرياضات المختلفة والسيرك والأكل والموسيقى وشرب الشاي… إلخ. تقابلها إقامة مهرجان ثقافي سياحي لبناني في الصين، يحدد برنامجه بالتعاون مع وزارتي الثقافة والسياحة.

4-إقامة معرض تشكيلي في قصر اليونيسكو لمدة عشرة أيام، تعرض فيه أعمال للبيع، وتقدم في خلاله ورش تدريب على الرسم بالحبر الصيني، وبروتوكولات الخط، وأنواع المواد اللونية، وورق الرسم وسوى ذلك من تقنيات الفن التشكيلي، يقابله معرض تشكيلي لبناني في الصين.

5-إقامة مهرجان سينمائي صيني لأفلام فازت بجوائز عالمية، مدبلجة أو مترجمة إلى العربية والإنكليزية، والاتفاق مع ذوي الاختصاص على ذلك. يقابله مهرجان سينمائي عربي وآخر لبناني يقام في الصين.

6-العمل على إقامة ورش موسيقية للتقريب بين الموسيقى العربية والموسيقى الصينية تحت عنوان “حوار الأصوات على طريق الحرير”، يتم بواسطتها تطعيم الفرق الموسيقية الصينية بآلات عربية، والعكس صحيح، وتقديم تجارب مشتركة لموسيقيين صينيين ولبنانيين في فرقة واحدة، وأداء فرق صينية موسيقى أغنيات لبنانية، والعكس بالعكس، وصولًا إلى تأليف موسيقى مشتركة، تستفيد من إمكانيات الآلات التراثية الخاصة بكل طرف، وتنظيم حفلات مشتركة، مع استلهام تراث طريق الحرير في مقطوعات موسيقية حوارية أو مشتركة.

7-تنفيذ فيلم تسجيلي يصور مشاهدات وانطباعات صحافي لبناني يزور الصين، وصحافي صيني يزور لبنان.

8-إنجاز عمل روائي لكاتب لبناني يقيم في الصين لمدة تمتد بين شهر وثلاثة شهور، يقابله عمل روائي آخر لروائي صيني يقيم في لبنان للمدة نفسها.

9-ورش عمل في مجال تحريك الدمى، بين صانعي دمى لبنانيين وصينيين، للوصول إلى عرض يقدم حوار دميتين تستلهم كل منها تراث بلدها.

10-إقامة ندوات في أوقات مختلفة، أهمها ندوات حول طريق الحرير كمعبر حضاري، والاستفادة من المشروع الصيني الهادف إلى إحيائه، في بيروت والمدن التي كانت بارزة في هذا السياق التاريخي.

11-مشاركة فرق صينية في مهرجانات الصيف، تتضمن الاستعراض المسرحي، والغناء، والرقص، والموسيقى.

12-تبادل علاقات ثقافية مع لبنان، من خلال تبادل الوفود والفعاليات، أو إقامة لقاءات مفتوحة أونلاين، على مستوى الكتّاب والأدباء والمفكرين، وعلى مستوى المحترفات التشكيلية والفنية عمومًا.

13-إطلاع مختصين لبنانيين على مستوى ما يسمى بـ”الحياة الذكية”، وكل ما يتعلق بها من أجهزة، من خلال تنظيم رحلات استكشاف من لبنان إلى الصين، وإقامة معرض صيني في بيروت حول آخر ابتكارات الصين في هذا المجال.

14-إبراز ثقافة الشاي في الصين، من خلال تاريخ زراعته وصناعته وأنواعه وما حيك حوله من تقاليد شعبية في شربه، وما صدر حوله من كتب.

خلاصة القول، صحيح أن التفاعل الثقافي بين الصين ولبنان لا يزال بطيئًا بعض الشيء، لكن حماسة الصينيين ستدفع به دائمًا إلى الأمام، والرابح الأكبر في النهاية لبنان، لأنه سوف يجد نفسه أمام بحر من المنصات الثقافية الصينية المدهشة. إلا أن ظروف لبنان القاهرة هذه الأيام من شأنها أن تؤجل الكثير من المشاريع، لكنه سوف ينهض يومًا ما، ويجد الصين على استعداد تام لملاقاته في أول الطريق.
لمتابعة باقي أجزاء السلسلة : اضغط هنا

أحمد بزّون، صحافي وناقد تشكيلي وأدبي وشاعر

أحمد بزّون - صحافي وناقد تشكيلي وأدبي وشاعر. - يشتغل في الصحافة اللبنانية والعربية منذ العام 1983. - اشتغل في جريدة "السفير"اللبنانية منذ بداية العام 1992 حتى العام 2015، وشغل منصب رئيس القسم الثقافي فيها من العام 1997 حتى العام 2015. - له كتاب نقدي بعنوان "قصيدة النثر العربية" (1996)، ورواية بعنوان "جسد بلا غد"(1998)، وكتابا شعر: "رقص على إصبع واحدة" و"للقهوة وقت نركنه في الزاوية"، وكتاب فني عن النحات "عزت مزهر"، وساهم في تحرير الموسوعة العمانية للفتيان، وكتب العديد من الأبحاث والملفات والدراسات في الأدب والفن التشكيلي. -مدير تحرير مجلة "الناشرون العرب" لاتحاد الناشرين العرب من 2015 حتى 2018. -عمل كاستشاري في عدد من دور النشر. -حائز جائزة سعيد عقل عن "الكلمة الملكة". - شارك في مؤتمرات ثقافية لبنانية وعربية عدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى