التفكير النقدي ترياق اللبنانيين السحري والمفقود! | كتب د. مازن مجوّز
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
لماذا يفتقر اللبنانيون إلى التفكير النقدي؟ بالطبع هم جميعاً يفكّرون، قد يكون تفكيرهم صافياً محايداً أحياناً، لكنّه في معظمه منحازٌ مشوّشٌ أو نابعٌ من قلّة الاطّلاع والمعرفة، مع أن جودة حياتهم وجودة ما ينتجونه ويصنعونه ويبنونه ويطمحون إلى تحقيقه، تعتمد وتتناسب طرداً مع جودة تفكيرهم.
كان الفيلسوف اليوناني سقراط يجد المتعة في تمضية وقته يناقش المسائل الفلسفية مع كلّ من يرغب في الحديث معه، من دون تمييزٍ بين غنيٍّ أو فقيرٍ، شابٍّ أو شيخٍ، أو حتى مواطنٍ أثيني أو غير أثيني، تجده في الشوارع والأسواق داعياً الناس إلى التّفكير والتأمّل طارحاً أسئلته العسيرة التي لا تنتهي: ما هي الفضيلة؟ ما هو العدل؟ ما هو الحقّ؟ ما هو الظلم؟
في إحدى النتائج التي توصّل إليها يتبيّن أنّ الحياة الجيّدة تتطلّب المساءلة النّقدية، وامتلاك روحٍ متقصّية، والرفع من أهمية طرح الأسئلة التي تدفع المرء إلى الغوص في أغوار التفكير قبل التسليم بأهلية الأفكار للتصديق، والتشكيك في المعتقدات والتفسيرات الشائعة.
في الواقع لم يعد هناك من عبارات كافية لوصف آلام اللبنانيين ومعاناتهم، إلا أنه الضروري التأكيد على أن “مسكنات السلطة” لآلامهم ومعاناتهم لا تعني زوالها، بل على العكس، إنها تزيد الأمر سوءاً عندما سيشعرون بها من جديد، وهنا نستذكر قول جبران خليل جبران: “الألم يغيّر الناس، فيجعلهم يثقون أقلّ ويفكّرون أكثر وينعزلون أطول”.
لكن الغريب في أمرهم هو لماذا لا تزال سلوكياتهم وتصرفاتهم تعاكس قول جبران؟ فنرى أنّ الألم لم يغيّرهم، ولم يجعلهم يثقون أقلّ بحكّامهم بل أكثر، فيما تفكيرهم لا يزال يفتقر إلى المساءلة النقدية، حتى أن جائحة كورونا عاجزة عن إرغامهم على الإنعزال الكافي أو حتى إتخاذ الإجراءات الوقائية المطلوبة.
يرى المفكر اللبناني وأستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية الدكتور طلال عتريسي أن التربية على التفكير النقدي تبدأ في مناهج التعليم، وهذه تقريباً نفتقدها في مناهجنا في لبنان، التي تقوم على التّلقين والحفظ، تبدأ المشكلة من هنا لتنتقل إلى النشاط الإجتماعي والسياسي وغيرهما”، لافتًا إلى أنه عندما يتربى الطالب على الحفظ ولا يتعلم التفكير النقدي، لن يتمكّن من التمييز بين هذا الاتّجاه السياسي أو ذاك، وبين هذه الفكرة إن كانت صائبة أم لا.
نحن لا نقوم بتدريس الفكر النقدي في جامعاتنا، وهذه البيئة الثقافية لا تخلق تفكيراً نقدياً عند وسط واسع وكبير في المجتمع اللبناني، فالمشكلة بشكل عام أصلها تعليمي وتربوي، لذلك لن يتجرأ اللبناني على نقد الأفكار التي تُطرح مهما كان نوعها، وفق مقاربة من شغل سابقاً منصب مدير المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية.
وإذا ما توقفنا عند مفهوم التفاؤل لدى العالم الفيزيائي البريطاني ديفيد دويتش “التفاؤل يعني إمكانيتنا على الحصول على المعرفة”، بمعنى آخر التفاؤل ليس شعوراً ساذجاً لا يقوم على أساس علمي منطقي. وإذا ما أمعنا في هذا المفهوم نعود إلى كلمة قامت عليها الحضارة الإسلامية، فأول كلمة نزلت في القرآن “إقرأ”. هذه القوّة التي تنازل عنها الكثير من اللبنانيين أفرادًا وجماعات، لتتحول تنازلاً مجتمعياً اليوم حيال عجزهم عن حلّ مشكلاتهم، التي يرونها مستعصية، لكنها في الحقيقة ليست كذلك.
فالكائن الوحيد الذي يمتلك هذه القوة هو الإنسان، لذا تفرّد، فيما غيرنا من الكائنات يُقلّد، ومن بين ما يجب أن يتميز به اللبناني اليوم هو التفكير النقدي. وهنا يعلق عتريسي “هذا النوع من التفكير لا يعني الإنقلاب على كل شيء، ولايعني ترك كل العادات والتقاليد، ولا يعني أن يصبح الإنسان بلا مرجعية ثقافية، لكنه يعني أننا يجب أن نربي أنفسنا ونربي الأجيال على القدرة على التمييز والقدرة على الإختيار الواعي والقرار الواعي”، معرباً عن ثقته بأن هذا الأمر سيكون في مصلحة التنوع في لبنان، بحيث نتقبل الآخر من خلال الوعي والإدراك، لا أن نعيش حالة الخوف وحالة القلق من وجود الآخر.
وبالطبع لإفتقار اللبنانيين إلى التفكير النقدي أسبابه، حيث يؤكد عتريسي أن الطوائف والأحزاب في لبنان تحوّلت إلى جماعات تنقاد بسبب الخوف من الآخر، هذه نقطة أساسية وهذا الخوف من الآخر مرتبطٌ بطبيعة النظام السياسي، الذي تتقاتل فيه الطوائف وتتقاسم فيه الحصص.
وبالتالي كلّ شخصٍ في هذه الطائفة يشعر بأن الطائفة الأخرى ستأخذ منه ما يحقّ له، أو ما يسعى للحصول عليه، ما يمنع التفكير النقدي في داخل الطائفة أو في مواجهة الزعيم، أو في مواجهة من يقود الناس سواءً كان مرجعية دينية أو سياسية، وفق عتريسي.
وفي الختام، يبقى الإنسان وحده من يملك المقدرة على الملاحظة والتعلّم، ثم إضافة معانٍ أخرى أكثر تقدماً مما تعلّمه. مَلَكة فَهِمها الكثير من الدول المتقدمة فاستغلّوها، فأصبحوا بالعلم والمعرفة قادة وسادة، وليس أمامنا سوى هذا المخرج، كي نستعيد مجدنا في العلم والمعرفة والإبداع…
المصدر: اضغط هنا