تقوم دراسة الإقتصاد القومي على توزيع مختلف أشكال الإنتاج وتقسيمها على قطاعات تشمل كافة جوانب النشاط الإقتصادي فكان بذلك التوزيع التقليدي الذي أطلقه الإقتصادي الأسترالي كولن كلارك لثلاث قطاعات رئيسية الزراعة والصناعة والخدمات فأخذ الإنتاج الزراعي تسمية القطاع الأولي أو قطاع السلع الطبيعية حيث الزراعة شكلت أقدم مصدر للثروة.
إلا أنَّ الزراعة، كقطاعٍ بحد ذاته، وبعد أن حرفت الدول أعينها عنه إبّان الثورة الصناعية عادت وبشكل سريع لتدرك أهميته كونه يشكّل بحدّ ذاته ناتجاً استراتيجيّاً لا يجب تهميشه واستئصال إمكانيّات الصّمود والتنمية المستدامة والمتوازنة في عصر أصبحت الصحّة والتغذية غاية الدول المتطوّرة الكبرى وجزء أساسي من أهداف الألفيّة للأمم المتّحدة.
في الدّول النامية تعاني الزّراعة من مشكلة الدّيون المتصاعدة بهدف التحديث و مواكبة المكننة زيادةً للإنتاجية، في حين يشهد عالمنا المعاصر تحدّيات كبيرة بفعل تحرير التجارة والمنافسة المتنامية والشروط المجحفة لدخول أسواق العالم المتقدّم. إنَّ الأكلاف الباهظة لتطابق الإنتاج ومعايير الجودة العالمية، في ظروف التغيرات المناخيّة والبيئيّة، أدَّت لظهور أشكال جديدة من عدم المساواة والفقر.
يفرض ذلك على حكومات الدّول التدخّل عبر سياسات تنمية الإنتاج الزراعي. هناك فئتان من المنتجات الزراعية : تلك التي يمكن إنتاجها بأسعار تنافسية بسبب رخص العمالة وطبيعة المناخ .. وبالمقابل هناك فئة الإنتاج الزراعي عالي المردود ( أو الزراعة الصناعيّة) والذي يتطلب سياسات زراعيّة استراتيجيّة تسهم في الحفاظ على هذا القطاع والحدّ من النزوح للمدن.
هل يدخل التفاح في فئة النباتات الصناعيّة الاستراتيجيّة..؟
تُعدّ الصّين أكبر منتج للتفاح في العالم، إذ إنَّ محصوله يناهز نصف الإنتاج العالمي. وقد ذهبت الصّين نحو التصنيع الزراعي كأكبر مُنتِج في العالم لعصير التفاح الذي يغزو حتى أسواق الولايات المتحدة وأوروبا واليابان بل واستراليا.
ويمثل الإنتاج الصّيني من عصير التفاح نحو ثلثي الإمدادات العالمية، أي أنَّ الصّين ارتقت بزراعتها للإنتاج الاستراتيجي بإمتياز. لقد تحول المزارعون الصّينيون عن زراعة الحبوب نحو زراعة التفاح حيث رفعت شركات عصير التفاح الصينية طاقتها الإنتاجية مع تزايد الطلب على عصير التفاح كبديل لعصير البرتقال، وذلك على أثر اتجاه البرازيل لتحويل بساتين البرتقال إلى محاصيل منتجة للوقود الحيوي وتأثر الولايات المتحدة بالتداعيات السلبية للأعاصير والتغيّر المناخي..
تنتج الصّين اليوم نحو 37 مليون طنّ سنوياً من التفاح أي ما يوازي 35 بالمئة من الإنتاج العالمي السنوي ، ووصل سعر عصير التفاح الصيني إلى مستوى قياسي بلغ نحو 2000 دولار للطن ، كما أنَّ عصير التفاح كمركّز للتّحلية أصبح البديل الغذائي في صناعة المشروبات والأغذية المحفوظة.
بالمقابل تمثّل الولايات المتحدة ثاني أكبر منتج للتفاح في العالم بنحو 4 ملايين طن سنوياً، فهي ذهبت نحو إنتاج التفاح العضوي في ولاية واشنطن حيث أكبر مزارع التفاح في الولايات المتحدة، إذ تلعب جودته دورا بارزاً في منافسة الدول بتبني ممارسات الإنتاج الحديثة. أكثر من 25 في المائة من مسؤولي تعبئة التفاح في الولاية حاصلين على شهادة ” مختص عضوي” من برنامج الأطعمة العضوية بوزارة الزراعة في ولاية واشنطن. لقد تمّ تطوير الزراعة بتثقيف المزارعين ليصبح الإنتاج الأميركي متفوقاً استراتيجيّاً على باقي المنتجين العالميين للزراعة العضويّة ذات الكلفة الأقلّ والمردود الأعلى.
فالزراعة العضويّة تحافظ على خصوبة التربة وتجديدها من خلال استخدام وسائل بيولوجيّة بدلاً من الوسائل الكيميائية لمكافحة الآفات.
وبذلك يكون إنتاج الولايات المتحدة للتفاح العضوي إنتاجاً استراتيجياً منافساً،حيث تؤهل المكان الأمثل لزراعة التفاح العضوي، إذ يساعد جفاف المناخ ودرجات الحرارة المثالية في تقليل الأمراض ومشكلات الآفات التي قد يتعرض لها التفاح. علاوة على ذلك، فإن معايير الجودة المطبقة على جميع محاصيل التفاح في واشنطن أكثر صرامة من معايير التصنيف المستخدمة في أيّ منطقة زراعية أخرى في العالم.
وأمام هذا المُعطَى الاستراتيجي الإقتصادي، أيّ واقع تعيشه زراعة التفاح اللبناني وأيّ مستقبل ينتظر هذا القطاع والمعتمدين عليه ؟..
لقد تدنّى تصنيف لبنان الإنتاجي من المرتبة 44 عالمياً في إنتاج وزراعة التفاح في العام 2012 إلى المرتبة 47 في 2017 – 2018 والإنذار بتدني التصنيف مقلق في حين تعتبر زراعة التفاح من أهمّ الزراعات التي يعتمد عليها أبناء القرى الجبليّة اللبنانيّة. لقد توالى عليها المزارعون منذ الثلاثينيّات وبدأت تتكثف لتصل إلى 160 ألف طن موسمياً أي ما يعادل حوالي 8 ملايين صندوق سنوياً..إلى أن سجل إنتاج التفاح تدنٍ مقلق ناهز الــ 123 ألف طن في العام 2017 وما زال ينحدر.
إن حصّة مساهمة إنتاج التفّاح اللبناني من الناتج الزراعي الوطني الإجمالي( مجموع السِّلع والخدمات ذات المنشأ المحلّي المباعة خلال فترة معينة) تمثّل حوالي 8.4 بالمئة.
ولكن هذا الناتج الكبير نسبياً كناتج قطاعي يعتمد فقط على المبادرة الفرديّة لا يدخل جيوب المزارعين إلا بنسبة 10 بالمئة كحد أقصى والباقي يستحوزه التجّار بعد حسم تكلفة الفرصة البديلة opportunity cost للأرض ووقت المزارع وحسم قيمة المدخلات من سماد وتشحيل وتنقية ومكافحة الحشرات وحراسة وكلفة اليد العاملة الزراعيّة، فتبقى القيمة المضافة للمزارع 10 بالمئة كأقصى تعديل من سعر السوق النهائي لمبيع كيلو التفاح.
بالمقابل تحصل مدخلات الإنتاج على 15إلى 20 بالمئة، أمّا 70 بالمئة من قيمة الكيلو تذهب إلى مراكز الحفظ والتبريد، تجار الجملة وتجار سوق الحسبة، وكبار باعة المفرق وأخيراً صغار الباعة والدكاكين.
إن سبب إنخفاض نسبة إنتاج التفّاح يعود لتعرّض زراعته مؤخراً لمشاكل عدّة ظرفيّة وبنيويّة فالأسباب الظرفية تمثلت بالأحداث والحروب في المناطق المجاورة كما وإقفال المعابر الحدوديّة ومشكلة التصدير.. أما الأسباب البنيوية التي يواجهها هذا القطاع المحدد فتتلخص في الكلفة الباهظة بالإعتماد على الأسمدة والأدوية المعالجة التي تحسن مستوى الإنتاجية حيث يغرق السوق بالأدوية المقلدة والتي تزيد كلفة الإنتاج بلا جدوى. كما لا يزال التفاح اللبناني اليوم يعاني من منافسة التفاح المستورد في ظلّ ضعف الرّقابة الحدوديّة وعدم فاعليّة الروزنامة الزراعيّة.
تغيب التعاونيات الزراعيّة غياباً تاماً في قطاع إنتاج التفاح، علماً أن عمل التعاونيّات هو جزء أساسي في معالجة المشاكل التي يعانيها صغار المزارعين والتي تعيق تطوير القطاع الزراعي. فإنشاء التعاونيات حاجة ملحّة لزيادة الإنتاجية وخفض الكلفة وتسويق الإنتاج بشكل أفضل، خصوصًا أن هناك فارقًا كبيرًا بين سعر المبيع الذي يحصل عليه المزارع وسعر البيع للمستهلك، وهذه المشكلة لا يمكن حلّها لمصلحة الطرفين معًا إلاّ بالعمل التعاوني لزيادة الإنتاجية وخفض كلفة الإنتاج.
لم تصل زراعة وإنتاج التفاح اللبناني إلى المرحلة التي تقيَّم فيها على أنها زراعة صناعيّة ولا حتى استراتيجيّة حيث الحكومات المتعاقبة في حالة سبات عميق من تفعيل الإنتاج في مختلف القطاعات ليس فقط الزراعية وذلك لاعتماد الإقتصاد القومي على الرّيع الهشّ الذي أثبت عجزه مع أكبر أزمة إقتصادية تضرب بالبلاد.
إن دعم زراعة التفاح كما والمزارع لا تكون فقط بإقرار تعويضات سنوية، مع العلم أنها مطلوبة في المرحلة الرّاهنة. إنَّ حماية المزارع المتضرر من الأزمة التي تمر بها البلاد، خاصة و أنّ 15 بالمئة من اليد العاملة تعمل في المجال الزراعي ككلّ هي ضرورة ولكنّها لا تغني عن سياسة زراعيّة استراتيجيّة. أما الآفاق المستقبلية للدعم فتكون عبر حماية المزارع بإنشاء بنى تحتية في المناطق الريفيّة والزراعيّة، قادرة على تلبية متطلبات المكننة الزراعية كما وحماية السوق من سياسة الروزنامات التي أغرقت أسواقنا بمنتجات منافسة، مع الإشارة إلى أننا في محيط جغرافي ينتج نفس السلع الزراعية في الوقت عينه.
لا يمكن تبدية مصلحة مزارعي الدول المجاورة على المصلحة الوطنيّة، مع ضرورة العمل على تصنيع الإنتاج كون التفاح من النباتات الصناعية التي يمكن تحويلها للعديد من السّلع تلبيةً لحاجات السّوق فيكون دعم المزارع حقيقة معاشة. إنَّ التصنيع قادر على امتصاص كامل الإنتاج مهما كانت حالته وجودته حتى لو تأثر بالعوامل المناخية وعامل الرطوبة.
يجب أن نتطلع اليوم إلى غدٍ مختلف بإنتاجيته و مردوده تجاه من يكدّ ويناضل للثبات في أرضه فالمؤسسة العامة لتشجيع الإستثمارات في لبنان “إيدال” التي أنشئت في العام 1994 بهدف ترويج لبنان كوجهة استثمارية حيويّة والتي حدد لها القانون رقم 360 /2001 وجهة لتشجيع الإستثمارات والترويج للصادرات اللبنانية والتسويق لها، لاسيما على صعيد المنتجات الزراعية والصناعات الغذائية. لم تزل خطواتها خجولة بحق مزارعي التفاح إذ تقوم الهيئة على دعم التاجر المحتكر بدل تعزيز دور المزارع المغلوب على أمره كما لم تصل إلى مرحلة دعم التصنيع وتسويقه بوظيفتها الإستثماريّة.
أضف إلى أنَّ مقترحات الإجراءات الإصلاحية الأوّليَّة لمواجهة الأزمة التي رشحت عن إجتماع بعبدا في 2/أيلول/2019 وتحت عنوان تفعيل السياسة الإقتصاديَّة، نصّت صراحة على ضرورة تعزيز قطاعات الإنتاج وإقرار الأولويّات الواجب المباشرة باعتمادها في الزراعة والصناعة عبر خطّة ” ماكنزي”، بما يحقق أهداف لبنان الإستثمارية.
هناك مشكلات حقيقيّة كبيرة يعانيها مزارعو التفاح في كل المناطق، ومنذ أعوام، وعلى كافة الأصعدة، ناهيكم عن المشكلة الكبيرة في تصريف الموسم وصعوبة ايجاد الأسواق للتصدير وعدم طرح حلول حقيقيّة تتيح تصنيع الإنتاج بما يؤدي لتهجير المزارع من أرضه وضرب إمكانات هائلة تتيحها الأرياف اللبنانية.
لسنا وحدنا أحفاد آدم، فلماذا يدفع التفاح اللبناني وحده ثمن الخطيئة الأصليّة..!!