مشهدية سوداوية عند اللبناني مما يخبىء له المستقبل | كتب د. مازن مجوّز
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
العلاقة بين الكتلتين الإنتاجية والإنجابية بخطر فهل من منقذ قبل فوات الأوان ؟
خصَصتُ مبلغ 30 مليون ليرة لحفل زواجي قبل إنهيار قيمة الليرة، لكننا اضطررنا إلى تأجيل زواجنا بسبب حالة وفاة أحد أقارب خطيبتي ، وبعد انهيار قيمة الليرة أغلقت المؤسسة التي أعمل بها أبوابها وأصبحت عاطلًا عن العمل، ما إضطرني إلى فسخ الخطوبة، تقديرًا لوضعي الذي لا يسمح لي بتأسيس عائلة ، يؤكد سامر م. ( 35 عاما ) والحزنُ يغلفُ ملامحَ وجهه تحسرًا على خسارته شريكة حياته بعد أن أصبح عاطلًا عن العمل .
واليوم يبدو أن “الكتلة الإنجابية” في لبنان كحال اللبنانيين المتعثرة، فشبابه باتوا في حيرة من أمرهم، فلا من هم على علاقة باستطاعتهم الزواج، ولا من هم على غير وفاق بامكانهم الطلاق، والمتزوجون يتريثون في الإنجاب، ضمن مشهدية سوداوية عند اللبناني مما يخبىء له المستقبل من مفاجآت، في ظل إزدياد عدد الوفيات وتراجع عدد الولادات.
فبين “الكتلة الإنتاجية” و”الكتلة الإنجابية” علاقة إضطرادية، فقد تراجعت خلال السنوات الماضية نسبة الزيادة السكانيّة في لبنان نتيجة تراجع الولادات وإرتفاع الوفيات. وبحسب الدوليّة للمعلومات فقد وصل عدد الولادات إلى 1,133,708 ولادة وعدد الوفيات إلى 330,273 وفاة أي بزيادة مقدارها 803,435 خلال العامين 2009 و2021.
وتعزو الدكتورة رنا هاني منصور، الرئيسة السابقة لقسم الاقتصاد في الجامعة اللبنانيّة إرتفاع نسبة الوفيات إلى أسباب عديدة أبرزها أنّ نسبة الوفيات التي سجّلها عدّاد كورونا في لبنان منذ مطلع العام 2020 وحتى اليوم، كانت أكثر في صفوف الإناث من صفوف الذكور، إضافة إلى تدنّي الكتلة الإنجابيّة، فالكثير ممّن هم في العمر الإنجابيّ قد غادروا البلد.
وشددت منصور على تداعيات عامل الهجرة كعامل أساسيّ لتراجع نسبة الولادات، موضحةً أنّ النسبة الأكبر من المهاجرين هم من فئة الشباب الذين لم يؤسّسوا عائلة بعد وهاجروا بحثًا عن تأمين لقمة العيش في الخارج، وهؤلاء بالطبع ينتمون إلى كافة القطاعات الإنتاجيّة في لبنان.
في الواقع، وكما هو معروف فإنّ الشباب اللبناني يرغب بالزواج وتأسيس عائلة لكن لا يختلف إثنان أن لا إمكانات مادية لديه لإقامة حفل زواج لائق بعائلته وعائلة زوجته كما هو متعارف عليه في التقاليد اللبنانية، ومن تزوج خلال إشتداد أزمة كورونا وإجراءات الإغلاق فهو بالتأكيد اليوم لا يفكر بالإنجاب نظرًا لعدم قدرته عن تأمين متطلبات طفله الحياتية.
وفي تفاصيل هذا الإحجام، نجد أن تداعيات الأزمة الاقتصاديّة والماليّة والمعيشيّة لا سيما الإنهيار التاريخيّ لسعر صرف الليرة اللبنانيّة مقابل الدولار الأميركيّ، وفقدانها حوالي 95% من قيمتها، وما سبّبته من تراجع كبير في القدرة الشرائيّة، يبقى السبب الرئيس لما وصل إليه الوضع الحاليّ.
وتشرح منصور بأن إرتفاع تكاليف الحمل بما تتطلبه من فحوصات مخبريّة، فضلًا عن إحتياجات المرأة الحامل من أدوية، دون نسيان تكاليف الولادة العاديّة أو القيصريّة التي ارتفعت أضعاف عما كانت عليه في السابق يُعتبر كافٍ لإنخفاض عدد الولادات. فالطفل أصبح مكلفًا على جيب والده لجهة لجهة تكاليفه حياته اليومية من أدوية وحفاضات وحليب وتعليم باتت تقدر بالملايين شهريًا، ومن هنا تدعو منصور إلى وجوب إجراء إصلاحات جذريّة في قطاع الرعاية الصحيّة، خصوصًا في ظل ما يعاني كل من قطاع الطبابة والإستشفاء والضمان الاجتماعيّ والتأمين من أزمات، معتبرة أن إنقاذ القطاع الصحيّ بات ضرورة كضرورة دعم مقدّمي الخدمات الصحيّة وصناعة الأدويّة، إذ يحتاجون إلى إغاثة فوريّة مع خطة استراتيجيّة للإصلاحات.
وفي النتيجة، تظهر بوضوح العلاقة الطردية بين الكتلتين (الآنفتين الذكر ) بفعل ما سببته الأزمات التي يتخبط بها لبنان من خلل في العلاقة بين الكتلتين، خصوصا بعد وجود 85% من سكان لبنان تحت خط الفقر. لتسأل منصور : عن أي زواج أو إنجاب نتكلم واللبنانيّ بمفرده من دون زواج قبل الأولاد لم يعد قادرًا على العيش بالحد الأدنى من الحياة الكريمة؟ .
أزماتٌ آخذةٌ بالإرتفاع، فالبطالة تضرب يمينًا وشمالًا في صفوف الشباب اللبناني ، في إقفال المئات من المؤسسات التجاريّة والصناعيّة والمصرفيّة والتي تسبّبت بصرف مئات الموظفين من أعمالهم. ما دفع بالكتلة الإنتاجية إلى الهجرة قاصدة فرصة عمل، والأمثلة كثيرة عن هجرة الأدمغة وأصحاب الخبرات التي أصابت كافة القطاعات، كقطاع البناء على سبيل المثال لا الحصر. فماذا يفعل المهندسون في حال كانت الشقق المعروضة للبيع لا تجد من يشتريها؟ تسأل منصور.
ووفق منصور فإنه لا يجب نسيان قطاع التعليم والتراجع الكبير الذي يُعاني منه في كافة مستوياته بعد أزمة كورونا، وفترات الإغلاق العام واللجوء إلى التعليم عن بعد، ناهيك عن إنقطاع التيار الكهربائيّ الذي حرم الطالب اللبنانيّ حتى من ذلك بعد تدنيّ قيمة الأجور والوصول إلى الإضراب المفتوح، الذي أعلنته وصلت الجامعة اللبنانيّة والمدارس الرسميّة في لبنان.
لبنان بلد الأفراح والمهرجانات تحول إلى مقبرة الأحلام والطموحات خصوصًا التي يسعى شبابه إلى تحقيقها، وتأثيرات الأزمة المالية والإقتصادية والمعيشية منتشرة في كل مكان، ومن هنا تتمنى منصور على المسؤولين والمعنيّين بذل الجهود المطلوبة لإنقاذ العباد قبل البلاد، وإلّا على لبنان السلام. فاللبنانيّ الذي لطالما تميّز بالإنفتاح الفكريّ والثقافيّ للتفاعل والحوار بين الحضارات، أصبح أتعس إنسان في العالم بعد أن أصبح يعيش في مركز المعاناة والمأساة والفقر والجوع بكل فئاته العمرية، آملة أن لا تتكرّر التجربة الفلسطينيّة في لبنان، فها هم اللبنانيّون ينزحون من لبنان الذي نأمل أن لا يمحى من خريطة العالم رويدًا رويدًا، ويتمّ ضمّه إلى دولة أخرى.