لعبة الأمم أدخلت أوكرانيا في عش الدبابير وستخرج منه مهشمة ؟؟ | كتب د. ناجي صفا
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
منذ ان تسلم بوتن زمام الحكم في روسيا مطلع الألفية الثالثة، تفتحت العيون الاميركية على روسيا بشكل اكثر حذرا، علما انها لم تكن مغمضة يوما، فالعداء الاميركي لروسيا يبدو تاريخيا وفي جينات اصحاب القرار الأميركي المتطلع الى ترسيخ الهيمنة الأميركية على العالم .
ظنت الولايات المتحدة انه بإنهيار الإتحاد السوفياتي قد استقر لها الامر بأحادية قطبية، لا ينازعها عليها احدا، مذ ذاك التاريخ بدأت التخطيط لتأبيد هذه الأحادية بخطوات متتالية، منها ما هو سياسي – اقتصادي، ومنها ما هو عسكري ولا سيما في قارة آسيا قلب العالم (افغانستان والعراق ) .
عقب انهيار الإتحاد السوفياتي عام ١٩٩١ اعلن جورج بوش الاب اننا اصبحنا امام نظام عالمي جديد، تبعه بعد ذلك عدد من المنظرين الاميركيين نحو عالم متغير لصالح الأحادية الاميركية، ونحو السيطرة على العالم، (ويمكن رص آلاف الصفحات حول ما كتبه هؤلاء عن العصر الأميركي القادم والأحادية القطبية بلا منازع)، اكتفي بطرح مجموعة اسماء من هؤلاء الذين عملوا على ذلك، امثال بول وولفوويتز، ريتشارد بيرل، اليوت ابرامز، دوغلاس فيث، برنارد لويس صاحب نظرية الإخضاع بالقوة، فرنسيس فوكوياما، وصمويل هنتنغتون وآخرون كثر .
كان الهاجس الاميركي هاجسان، الاول احتواء الدول التي كانت جزءا من الإتحاد السوفياتي، او تلك التي كانت تدور في فلكه .
والثاني هو محاصرة روسيا الإتحادية ومنعها من حالة نهوض جديدة، لا سيما بعد تسلم بوتين السلطة وظهور رغبته في اعادة بناء روسيا من جهة، وفي اعادة الإعتبار لها كدولة عظمى من جهة اخرى، قضت الخطة الأميركية بمحاولة السيطرة على قلب آسيا، وتطويق روسيا ومنعها من اعادة النهوض مجددا.
بدأ المخطط الاميركي بالزحف نحو روسيا وتطويقها عبر اغراءات قدمت للدول المحيطة بها، او كانت جزءا منها ايام الإتحاد السوفياتي، بإدخالها الى الإتحاد الأوروبي اولا، ومن ثم الى الحلف الأطلسي، الذي يشكل العداء لروسيا جزءا من عقيدته السياسية والعسكرية .
ربما من سوء حظ الولايات المتحدة امرين، الاول ان روسيا دولة مترامية الاطراف من جهة، وتختزن ثروات هائلة من النفط والغاز والمعادن من جهة اخرى، وتشكل إهراءات العالم من القمح والحبوب والزيوت، ناهيك عن بعض الصناعات الأخرى التي يحتاجها العالم .
الأمر الآخر الذي اثار هلع اميركا، ان شخصا جديا ورؤيويا وطموحا قد تقلد الحكم، اسمه فلاديمير بوتن، الطامح لعودة مجد روسيا التاريخي، سواء في حقبة القياصرة، او ايام الإتحاد السوفياتي، فكان كلما تقدم بوتن بخطوة على الطريق الذي رسمه لبلاده، يرتفع منسوب الادرينالين لدى الولايات المتحدة، لذلك عملت مبكرا على ادخال دول كانت تدور في فلك الإتحاد السوفياتي في الحلف الأطلسي، ونجحت في ادخال احد عشر دولة في الحلف كلها تقريبا تحيط بروسيا، هذا في عهد بوتين فقط، ناهيك عمن ادخلتهم قبل ذلك، وهذا ما يؤكد النوايا الاميركية المبيتة تجاه روسيا .
في العام ٢٠٠٤ ذهبت الولايات المتحدة الى احداث ثورة ملونة في أوكرانيا، وهي التي تعتبر في معدة روسيا، وبدأت محاولات قلب الواقع الجيوسياسي الاوكراني من دولة حليفة لروسيا الى دولة معادية، استتب لها هذا الامر عام ٢٠١٤ عندما نجحت في احداث انقلاب معاد بالتمام لروسيا، كلفها ذلك ستة مليارات دولار .
ادى هذا الإنقلاب المعادي الى بداية خلخلة الدولة الاوكرانية، فقد اعترضت منطقة الدونباس (دانتيسك ولوغانسك ) الواقعتان شرق اوكرانيا وذات الاغلبية الروسية او ناطقة باللغة الروسية، وطالبت بالإنفصال عن أوكرنيا، او بالحكم الذاتي .
ذهب النظام الجديد في اوكرانيا الى محاولة اخضاع هذه المنطقة الإنفصالية بالقوة، فقد وقع فيها اربعة عشر الف قتيل منذ العام ٢٠١٤ ولغاية مطلع العام الحالي، رغم الإتفاقية التي تم التوصل اليها في مينسك واقرت بنوع من الإدارة الذاتية لهذه المنطقة، لكن المتطرفون الأوكران الذين استولوا على الحكم رفضوا تنفيذ اتفاقية مينسك، واستمروا في محاولات اخضاع الدونباس بالقوة.
مع تطور قدرات روسيا العسكرية والإقتصادية، ولا سيما مشروع السيل الشمالي نورد ستريم ٢ الذي سيؤدي الى مزيد من تعميق العلاقة بين روسيا واوربا، ويؤدي الى فوائد مالية هائلة لروسيا، اذ يرفع معدل تزويد اوروبا بالغاز الروسي من ٥٥ مليار متر مكعب من الغاز الى ١١٠ مليار متر مكعب .
اثار ذلك الهلع الاميركي الطامح لإضعاف روسيا وتطويقها، اذ وجدت الولايات المتحدة انه بدل تطويق روسيا ومحاصرتها كمقدمة لإحتوائها، وجدت ان روسيا تتقدم عن طريق تعميق العلاقة بأوروبا عن طريق الغاز من جهة، وتطوير القدرات العسكرية والإقتصادية والسياسية عن طريق التحالف مع كل من الصين وايران والهند والجزائر وجنوب افريقيا وفنزويلا وكوبا ودول اخرى، اضافة الى علاقتها الإستراتيجية مع سوريا التي خلقت لها مدى حيوي في الشرق الاوسط .
كان لا بد بنظر الولايات المتحدة من زيادة الأذية لروسيا، بالمزيد من التطويق والمحاصرة، بتحريض الرئيس الاوكراني زيلنسكي المعادي بالأصل لروسيا على العمل ضد روسيا انطلاقا من الخاصرة الاوكرانية التي يمكنها اذية روسيا، بناء على وعد له بضم اوكرانيا الى الإتحاد الاوروبي وحلف شمال الاطلسي .
تحضيرات كثيرة كانت تجري في اوكرانيا منذ العام ٢٠١٤، تدريبات للقوى المتطرفة وتزويدها بالسلاح، تلك التي توصف بالنازية “مجموعات آزوف”، اضافة الى افتتاح مختبرات جرثومية وبيولوجية على الحدود الروسية، ما يشكل خطرا مباشرا على روسيا جراء الاوبئة والأمراض التي يمكن ان تحدثها.
روسيا كانت تراقب الوضع عن كثب، وكانت تدعو الى معالجة هذه الإختلالات عن طريق الدبلوماسية، لكن الغرب الأميركي والغباء الاوروبي اصموا اذانهم عن النداءات والمناشدات الروسية، لم تفلح ثلاث اجتماعات مع الولايات المتحدة، والمجموعة الأوروبية، والحلف الاطلسي في الوصول الى نتائج، والى تفهم الحاجات الأمنية لروسيا.
بالمقابل كان يزداد الشحن اليومي لزيلنسكي نحو مزيد من العداء لروسيا، ولتهديد امنها القومي، من خلال ايهام زيلنسكي بالدخول الى الإتحاد الاوروبي والحلف الاطلسي وتوفير مظلة له.
قرر بوتين القيام بعملية عسكرية ضد اوكرانيا للحيلونة دون الحاق الأذى ببلاده، حيث الصاروخ من كييف الى موسكو لا يحتاج لأكثر من اربع دقائق فيما لو انتشرت قواعد عسكرية للحلف الأطلسي في أوكرانيا.
ورطت الولايات المتحدة والغرب زيلنسكي في معركة غير متكافئة مع روسيا بوعود خلبية، سيكون من نتائجها تدمير البنية التحتية لأوكرانيا، وربما تحويلها الى دولة فاشلة ومنزوعة السلاح بعد اكتشاف رغبات زيلنسكي بالسلاح النووي وبعد افتضاح المختبرات الجرثومية والبيولوجية التي تشكل خطرا على العالم اجمع وليس على روسيا فحسب.
ادخلت الولايات المتحدة زيلنسكي في نفق يصعب الخروج منه دون دفع اثمان باهظة، وجرته الى لعبة امم ستكون نتائجها خطيرة على مستقبل اوكرانيا، ولا سيما احتمال تقسيمها الى اكثر من دولة، بعد ان فقدت جزيرة القرم عام ٢٠١٤، ومنطقة الدنباس التي تحولت الى جمهوريتي دانتيسك ولوغانسك الآن، بالإضافة الى احتمال تقسيم ما تبقى من أوكرانيا.
راهنت الولايات المتحدة على فشل بوتين في عمليته العسكرية، كما راهنت على اضطراره للتراجع جراء العقوبات القاسية، التي املت منها تقليب المجتمع الروسي ضده، وضرب الإقتصاد الروسي واستنزافه، من خلال البروباغندا الإعلامية الهائلة التي مارستها ضده لتشويه صورته وشيطنته، والتي صبت فيها كل انواع الكذب والنفاق والتزوير، وصولا الى بث الحقد الهائل ضد الشعب الروسي، الأمر الذي احدث ردة فعل لدى الشعب الروسي ادى الى رفع منسوب شعبية بوتين من ٦١% الى ٧٧%، ومكنه من اتخاذ اجراءات شديدة القسوة بوجه الغرب، نقلت الازمة من روسيا الى اوروبا الغربية، لا سيما قرار بيع الغاز والنفط الروسي الذي تحتاجه اوروبا بالروبل الروسي، بدل الدولار واليورو.
يجمع المراقبون الاقتصاديون على ان خطوة بوتين تشكل ضربة معلم، وسيكون لها تداعياتها هائلة على الإقتصاد الاوروبي الغربي وربما العالمي، حيث سيجبرهم على شراء الروبل سواء بالدولار او اليورو او حتى الذهب .
كتبت في مقالة سابقة ان ” ثعلبا بلع منجلا، ستسمع صراخه عن خروجه”، ويبدو ان الصراخ قد بدأ مع بدء سريان بيع النفط والغاز بالروبل الروسي .